إضاءات تدبریة

قسوة القلب، الداء الخطير!

يختلف الناس في مدى تأثرهم وتفاعلهم بالحقائق والوقائع، فرب شخصٍ يتأثر بها أشد تأثر ويتفاعل معها إيجابياً بشكلٍ كبير …

 

-1-

يختلف الناس في مدى تأثرهم وتفاعلهم بالحقائق والوقائع، فرب شخصٍ يتأثر بها أشد تأثر ويتفاعل معها إيجابياً بشكلٍ كبير، ورب مارّ عليها مرورَ متجاهلٍ غير عابئ، وبينهما أطياف الناس؛ فبالرغم من أن الواقع واحد بما يمثله من حقيقة، والمفروض تأثيرها في الناس جميعاً، إلا أن اختلافهم في مدَى إرادتهم للحق واتباعهم له جعلهم مختلفين في التأثر بالحق.
ويعبّر عن أولئك الذين لا يتأثرون بالحق – كالوحي الألهي أو وعظ الواعظين – رغم وعيهم له وعلمه بحقانيته بأنهم (قساة القلب) فلا يكمن الخلل في الحق أو في وسيلة تبليغه، أو في وضوحه، بل يكمن الخلل في قلب المتلقي؛ حيث صار قاسياً فلا يتأثر بشيء، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام:
«لَمَّتَانِ لَمَّةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَلَمَّةٌ مِنَ الْمَلَكِ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ الرِّقَّةُ وَالْفَهْمُ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ السَّهْوُ وَالْقَسْوَةُ»(1).
وقد تكون القسوة مرتبطة بعدم التأثر بوقائع وأحداث، كما في عدم تأثر قاسي القلب بمنظر يتيمٍ يبكي من جوع، أو مظلومٍ تقهره السلطات الجائرة، وقد تكون القسوة بلحاظ عدم قبول الحق، والذي يبدو أن الثاني جذر الأول، فحين يقسو قلب الإنسان بعدم قبوله للحق، سوف لا يؤثر فيه شيء أبداً، أوليس قلبه يتحول كالحجارة، وما يرجى من الحجارة أساساً؟ وسيجد القارئ بعض التداخل بين لحاظي القسوة، ولكن الحق أنهما نتاج أمرٍ واحد.

 

-2-

لقسوة القلب أسبابٌ ونتائج، ولا يهمنا ههنا التعرض لها تفصيلاً لأن محل ذلك إلى كتب الأخلاق التفصيلية، إلا أن الذي يهمنا ههنا بيان أن حالة القسوة قد تكون فردية، وقد تكون جماعية، فحين يسير المجتمع بسيرةٍ معينة تؤدي إلى قسوة القلب، سيكون أبناؤه جميعاً قساة القلب، ولذا نشير إلى بعض تلك الأسباب التي قد تتحول إلى حالة إجتماعية سائدة، ومن أبرزها – بحسب ما تشير النصوص الشريفة – عدم الإيمان بالرسل، ومن ثم الإستهزاء بهم، أو الإستهزاء بأي داعٍ أو ناصح؛ فعدم التصديق بالحق جرمٌ لا يفوقه سوى الإستهزاء به، الأمر الذي يوجب القسوة.
ومن الأسباب أيضاً طول الأمل بالدنيا، حيث يأمل الإنسان العيش في الدنيا أبداً، الأمر الذي سيجعل توجهه كله منصبّاً نحو الدنيا وسبيل الإستزادة منها، مما سيؤدي إلى قسوة قلبه، قال أمير المؤمنين، عليه السلام:
«مَنْ يَأْمُلْ أَنْ يَعِيشَ غَداً فَإِنَّهُ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَداً وَمَنْ يَأْمُلْ أَنْ يَعِيشَ أَبَداً يَقْسُ قَلْبُهُ وَيَرْغَبْ فِي دُنْيَاهُ»(2)، أرأيت أبناء الدنيا حيث يخططون للعيش فيها عقوداً من الزمن، ويبنون للبقاء دهوراً؟ حين تدرس حياة هؤلاء من قريب تجدهم لا يرون في الكون إلا ذواتهم الضيقة، وبذلك لا يعرفون الرقّة مع أي مخلوقٍ خلقه الله – سبحانه -.
ومن الأسباب الأساسية المورثة لقسوة القلب، عدم تطبيق تعاليم الدين – في جانب الأوامر -، أو كثرة مخالفتها – في جانب النواهي – رغم وعيها وزعم الإيمان بها؛ إذ أن عدم العمل بالوعظ أو تعاليم الشريعة سيؤدي إلى عدم تأثر القلب بها وتحوّلها إلى أمرٍ غير ذي بال بالنسبة إليه، قال الله سبحانه:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُون‏}، (سورة الحديد: 16).
أما النتائج فكثيرة أشارت إليها النصوص الشريفة بما لا مجال لذكرها تفصيلاً، أبرزها جمود العين، وعدم إستجابة الدعاء – لعدم التوجه القلبي – ومنع السماء قطرها لقساوة القلب على أهل الفقر والفاقة، وفي نهاية المطاف الشقاوة الأبدية.

 

-3-

بنو إسرائيل، ذلك الشعب الذي فضّله – الله سبحانه – على العالمين؛ إنحدر في سلوكياته وتصرفاته منحدراً شديداً، ومرّ مجموعة أمراضٍ خطيرة – ذكرنا بعضها سابقاً -، حتى وصل الأمر بهم إلى واد القسوة، حيث قست قلوبهم وباتت أشد من الحجارة.
ويبين القرآن الكريم قسوة قلوبهم، في سياق الحديث عن محاولاتهم المتكررة لعصيانهم أوامر النبي العظيم موسى، عليه السلام، حيث قال – سبحانه -، بعد ذكر قصة أمر النبي لهم بذبح البقرة، قال:
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون‏}، (سورة البقرة: 74)، فشبّه القرآن الكريم قلوبهم بالحجارة أو أشد منها.
لأنهم لم يتبعوا تعاليم السماء إتباعاً سليماً، ومن هنا فـ “إن قسوة القلب جاءت بعد مرحلة الاستخفاف بتعاليم الدين، والالتفاف حولها، والتشبث بقشورها”(3).
ووصف القرآن الكريم قلوبهم بأنها أشد من الحجارة.
لأن الحجارة قد تؤدي دوراً في الحياة، كما خروج الماء منها – الذي عاينه بنو إسرائيل أنفسهم في قصة الإستسقاء.
أو تخشع لخشية الله – كما في قصة الجبل الذي صار دكّا لخشية الله – ولكن القلوب القاسية لا دور لها في الحياة، ولا تخشع لله سبحانه أبداً.
ولكيلا يظن ظانٌّ أن السبب في عاقبتهم هو عدم التبليغ أو عدم وعيهم له، يستمر السياق القرآني في سورة البقرة ببيان فعلهم المنحرف، حيث قال – تعالى- مخاطباً المؤمنين:
{أَ فَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يحُرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، (سورة البقرة: 75)، حيث وصل الأمر بهم إلى تحريف كلام الله عن سابق قصد وعلم.
وفي مناسبةٍ أخرى، بيّن القرآن الكريم قسوة قلب عند بني إسرائيل، حيث عزا ذلك إليهم بسبب نقضهم للميثاق الذي كان يقتضي الإلتزام بحدود الشرع من إقامة الصلاة وأداء الزكاة والإيمان بالرسل واحترامهم، وإقراض الله قرضاً حسنا؛ قال سبحانه:
{فَبِما نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى‏ خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَليلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنين‏}، (سورة المائدة: 13).
فاستحقوا لعنة الله بنقضهم للميثاق ونكثهم للعهود، فما تعني لعنة الله، وما نتيجة قسوة قلوبهم؟
يقول المرجع المدرسي في بيان هذه الآية المباركة: «فأبعدهم اللَّه عن حظيرة الايمان، ولم تعد قلوبهم تستوعب نور معرفة اللَّه لعظمته، وتخشى عذابه، وترجو رحمته، لم تعد نفوسهم تندفع الى الخير، وترهب عواقب الشر، فأصبحت قلوبهم جامدة لا تهزها متغيرات الحياة، ولا تؤثر فيها الأحداث، وبالتالي أصبحت قلوبهم قاسية»(4).
أما عن قسوة قلوبهم فقال: «{وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً} ان القلب يلين بالمعرفة والموعظة ويقسو بالجهل والغفلة.. ان معرفتك باللَّه تجعلك تخافه وترجوه، وبين الخوف والرجاء يلين قلبك ويستعد للتفكير الموضوعي ويتقبل الحق الذي يهديه اليه تفكيرك الموضوعي ويندفع للعمل الذي يستوجبه الخوف والرجاء.
القلب القاسي يقبع في زنزانة الذات، ولا يرى سببا لمعرفة الحياة ولا للتوافق مع سنتها وحقائقها، إذ أنه لا يخاف ولا يرجو، ومن هنا فانه يستهين بالعلم ويستخف بالحق وبرسالات السماء بل ويلعب بها حسبما تملي عليه أوهامه.
انه يحرف كلام اللَّه لأنه لا يرى قيمة لكلام اللَّه، ولا يشعر بأنه هو الذي يجلب الخير اليه ويدفع الضرر عنه، ذلك لأنه أساسا لا يعقل زوال الخير عنه، ولا خطر نزول الضربة. من هنا لعن اللَّه اليهود بقسوة القلب فحرفوا كلام اللَّه»(5).

-4-

نستفيد من الآيتين في سورة البقرة والمائدة، بصائر هامة، أبرزها أن دور الأنبياء دور الطبيب المعالج لأمراض البشرية، فحين يدعو النبي الأمة إلى الرجوع إلى الله – سبحانه -، والإيمان به وحده، فإن لذلك تأثيراً كبيراً على روح الإنسان وقلبه، ولا يكفي مجرد إدعاء الإيمان، بل لابد من الإمتثال لتعاليم الدين وتطبيقها عملياً ليصبح القلب رقيقاً يتقبل الحقائق، كما تتقبل التربة الصالحة النواة، فقد روي عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: «مَنْ أَنْكَرَ مِنْكُمْ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَلْيَدْنُ يَتِيماً فَيُلَاطِفُهُ وَلْيَمْسَحْ رَأْسَهُ يَلِينُ قَلْبُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ»(6)، حيث أمر النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، بسلوكٍ صالحٍ مرضي، يؤدي إلى زوال قسوة القلب.
——————————–
(1). وسائل الشيعة/ ج16/ ص 44.
(2). مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل/ ج12/ ص 94.
(3). من هدى القرآن/ ج1/ ص 197.
(4). من هدى القرآن/ ج2/ ص 199.
(5). المصدر نفسه/ ص 200.
(6). ثواب الأعمال وعقاب الأعمال/ ص 200.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا