مناسبات

في ذكرى استشهاد الزهراء.. فدك بمعنى الولاية

طلب هارون العباسي ذات مرة من الامام الكاظم، عليه السلام، أن يطلب فدكاً ليردها له بعد اغتصابها من الصديقة الزهراء، عليها السلام، بعد ساعات من رحيل والدها رسول الله، فأبى الامام أن يجيبه، فألحّ عليه هارون، فقال له الإمام: إن حددتها لن تردّها، فأقسم عليه، فقال، عليه السلام: أمَّا الحَدُّ الأوَّلِ فَعَدن، فتغيَّر وجه هارون، وقال : هيه! –ينقل الراوي- والحَدُّ الثَّاني سَمَرْقَنْد، فاربدَّ وَجه هارون، وَالحَدُّ الثَّالِثِ أفْرِيقْيَا، فاسْوَدَّ وجهه، والرَّابِعُ سَيف البَحْر مِمَّا يَلي الخَزَر وَأرْمِينْيَة .فقال الرشيد : فَلَمْ يَبْق لنا شيء .فقال الإمام الكاظم، عليه السلام: قَدْ أعْلَمتُكَ أنِّي إنْ حَدَّدْتُها لَمْ تَردَّهَا.

القضية ليست أرضاً زراعية خصبة، واسعة الأطراف، وغنية بالمحاصيل والمردود المالي الضخم الذي كان يُقدر آنذاك بمئات الدنانير الذهبية، ولا حتى مسألة إرث وفق الاحكام الشرعية، وإن كانت هي كذلك على أرض الواقع، إنما الحقيقة في أبعاد واسعة وعميقة تقف خلفها حكمة إلهية لاختبار الأمة في –ضمن حزمة اختبارات- في أهل بيت رسوله، كيف يخلفونهم فيه، ويبدو أن هذه الأمة سقطت في هذا الاختبار بشكل مريع فاضطرت للغشّ والخيانة والمراوغة للتنصّل من المسؤولية الدينية الكبرى.

النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وبعد توفير عوامل الأمن والاستقرار من جهة كفار قريش في مكة جنوباً، عزم الى توفير الأمن والاستقرار للمدينة من جهة الشمال باتجاه الشام، فكان يطارد فلول القبائل اليهودية التي طالما تحالفت مع القبائل العربية المناوئة للرسالة في محاولات بائسة منها لإطفاء نور الله –تعالى- وإلحاق الهزيمة بالنبي وجيشه، فكانت غزوته لحصون خيبر، وبعد حصار شديد وطويل تم الاستيلاء على الحصن في واقعة معروفة بطلها أمير المؤمنين، عليه السلام، وكان الى جانب الحصن أرض زراعية واسعة وخصبة تُسمى “فدك” كانت بمنزلة السلة الغذائية لليهود، فاستولى عليها رسول الله، بعد أن صالحهم على أن يبقوا في الأرض ويستمروا في عمل الزراعة مع دفع الجزية للدولة الاسلامية.

⭐ من خلال قضية فدك، كشفت الزهراء، عليها السلام، حقيقة أدعياء الصحبة والدين، و بينت كذب ادعائهم بأحقيتهم بخلافة رسول الله، عندما عجزوا عن أن يُحْكموا آية واحدة من كتاب الله وهو يصرّح في آية واضحة بأحقية الزهراء في الميراث من أبيها رسول الله

واعتقد أن ثمة مسألة شرعية وقانونية في النظام الاسلامي غابت –وماتزال- عن الأمة أن الأرض التي لم يقاتل المسلمون عليها “بخيل ولا ركاب”، بنصّ الآية القرآنية فهي تكون غنيمة خاصة بالنبي وحده، ولا يشترك فيه سائر المسلمون؛ {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وبعد فترة نزلت الآية الكريمة: {وأتي ذا القربي حقه}، نفذ النبي إرادة السماء ودفع فدكاً الى ابنته فاطمة نحلةً، فتحولت ملكيتها اليها في حياته، وحسب المصادر؛ بقت فدك في ملكية فاطمة، سلام الله عليها حوالي اربع سنوات في حياة رسول الله، وهي فترة طويلة قياساً بحياة النبي الأكرم بين افراد الأمة آنذاك، فكانت آلاف الدراهم والدنانير الواردة من خيرات فدك تذهب الى فقراء المسلمين، ولم يزل من حياة الزهراء شظف العيش، وحالة الزهد التي كانت عليها في كل تفاصيل حياتها.

وعندما خطبت الزهراء، سلام الله عليها، تلك الخطبة العصماء والتاريخية المجلجلة في مسجد أبيها، رسول الله، لم تكن ترمي الى حقها في فدك وحسب، وإنما في الولاية والخلافة التي عاهدوا الله ورسوله عليها في غدير خُم، ثم نكصوا على أعقابهم، ولا أدلّ على هذا من تجاهل أمير المؤمنين، القضية بعد وصوله الى الحكم، فخرجت حشرجة سريعة في رسالته الشهيرة الى واليه على البصرة عثمان بن مضعون، وهو يلومه على تلبيته دعوة لأعيان المدينة، في قصة مشهورة، ومما قال فيه يبين للمسلمين عبر التاريخ ضرورة ان يكون الحاكم زاهداً: “بَلَى! كَانَتْ في أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّماءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ، وَنِعْمَ الْـحَكَمُ اللهُ. وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَكَ وَغَيْرِ فَدَكَ، وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ”، فكان بامكانه استرجاعها من موقع القوة، فاذا كان يفعل ذلك، لكانت تعود الى الحاكم من بعده بنفس منطق القوة، ولا يكون أحداً ملوماً، وهو ما لايريده أهل البيت الذين يدعون الى منطق الحق والقيم السماوية، وهو ما حصل بالفعل، فقد كانت فدكاً عنواناً سياسياً لمن يريد ان يتقرب الى أئمة أهل البيت من الأمويين والعباسيين، فتُعاد الى الأئمة، ثم تغتصب مرة اخرى، بينما بقيت للتشيع وللإسلام بشكل عام عنوان لمواجهة الظلم والطغيان والانحراف.

من خلال قضية فدك، كشفت الزهراء، عليها السلام، حقيقة أدعياء الصحبة والدين، و بينت كذب ادعائهم بأحقيتهم بخلافة رسول الله، عندما عجزوا عن أن يُحْكموا آية واحدة من كتاب الله وهو يصرّح في آية واضحة بأحقية الزهراء في الميراث من أبيها رسول الله.

وهكذا تحولت فدك من أرض زراعية ذات طابع اقتصادي بحت، الى عنوان لمعارضة الانحراف والخداع والكذب على الله ورسوله من قبل اشخاص يدعون أنهم مقربون وصحابة لرسول الله، فقد كذّبوا فاطمة، مع علمهم بمنزلتها من الله ورسوله، وأنها من أهل الجنة، كما كذبوا أمير المؤمنين والحسن والحسين، مع علمهم بأن آية التطهير تخصّهم وحدهم بلا ريب، وهذا درسٌ عظيم وبليغ لنا بأن نقدم قيم الحق ورسالة السماء على كل المصالح المادية والفئوية مهما كان الثمن عندما نكون في اختبار التقييم والاختيار.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا