أسوة حسنة

الرَّسُولُ الأَكرَمُ نِبْرَاسُ الشَّجَاعَةِ ومُعلِّمها

  • مقدمة

قالوا في المعجم الجامع: شَجّاعة: (اسم) والمصدر شجُعَ: وهي (قُوَّة وَجُرْأَة، شِدَّة القَلْبِ عِنْدَ البَأْسِ، رَبَاطَة الجَأْشِ)، أو هي (قوّة معنويّة تمكِّن الإنسان من مقاومة المِحَن، ومجابهة الخَطر أو الألم، وتدفعه إلى العمل بحزم)، ولدى (الفلاسفة كأفلاطون): هي إحدى أمّهات الفضائل الأربعة، وهي الحكمة، والشّجاعة، والعفّة، والعدالة).

ولذا قال العلماء في تعريفها: هي (الإقدام على المكاره، والمهالك، عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش (القلب) عند المخاوف، والاستهانة بالموت)، وقال ابن حزم: (حدُّ الشَّجَاعَة هو بذل النفس للموت، عن الدِّين، والحريم، وعن الجار المضطهد، وعن المستجير المظلوم، وعن الهضيمة ظلماً في المال، والعرض، وفي سائر سُبل الحق، سواء قلَّ مَنْ يعارض أو كثر).

فالشجاعة: هي الجرأة على اقتحام الغمرات والمهالك، وقوة القلب في الأماكن والمواقف التي تتزلزل فيها القلوب، وهي على ضربين أو نوعين كما يقول العلماء هما:

1-الشجاعة القتالية؛ وتظهر في الحرب وساحات القتال.

2-الشجاعة الأدبية؛ وتظهر في المواقف الحرجة بقول الحق ودحض الباطل.

والحديث عن الشجاعة بكلا معنييها هو الحديث عن أشجع الشجعان من آل عدنان ألا وهو النبي العربي محمد بن عبد الله، وذلك لأنه كان فريداً وحيداً ولم يكن معه إلا زوجته السيدة خديجة، وفتى في بدايته وواجه قريش وطغاتها والعرب وحميتهم والجاهلية بكل صلافتها وغلظتها وفظاظتها لوحده ولم يأبه لهم جميعاً ومَنْ كان يجرؤ على مخالفة أولئك الملأ الذين وصفهم لذاك الأنصاري عندما استصغرهم بعد رجوعهم من معركة بدر الكبرى حيث قال لهم سلمة بن سلامة بن وقش: ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله إن لقينا به إلا عجائز صلعاً كالبُدن المعقلة فنحرناها، فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وآله، ثم قال: (أي ابن أخي؟ أولئك الملأ (الأشراف والرؤساء)، لو رأيتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرته، وبئس القوم كانوا لنبيهم). (سبل الهدى والرشاد؛ الصالحي الشامي: ج4 ص 64).

⭐ الحديث عن الشجاعة بكلا معنييها هو الحديث عن أشجع الشجعان من آل عدنان ألا وهو النبي العربي محمد بن عبد الله

 فأي قلب كان يحمله ذاك الإنسان العظيم الذي جاء أشراف قريش وكبراؤها (فَقَامَ عُتْبَةُ وَاَلْوَلِيدُ وَأَبُو جَهْلٍ وَاَلْعَاصُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: إِنَّ اِبْنَ أَخِيكَ قَدْ سَبَّ آلِهَتَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَسَفَّهَ أَحْلاَمَنَا، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ).. فلما عرض عليه قولهم قال: (يَا عَمَّاهْ لَوْ وُضِعَتِ اَلشَّمْسُ فِي يَمِينِي وَاَلْقَمَرُ فِي شِمَالِي مَا تَرَكْتُ هَذَا اَلْقَوْلَ حَتَّى أُنْفِذَهُ أَوْ أُقْتَلَ دُونَهُ)، فأي شجاعة تلك سيدي؟

وأما الشجاعة الحربية والقتالية فإنه الذي واجه ألفاً من رجال قريش وطغاتها بجيش ليس معهم سلاح بل عصي وجريد النخل وكسر شوكتهم وقتل سبعين من كبرائهم، وأسر مثلهم، وثبت في وجه ثلاثة آلاف من قريش في يوم أحد حيث فرَّ عنه الجميع إلا أمير المؤمنين وبعض الصحابة لا يتجاوزون أصابع اليد ونسبية المازنية أم عمارة، وكذلك صمد في تسعة من الهاشميين وأيمن ابن أم ايمن في يوم حُنين حيث فرَّ عنه جيشه وكان تعداده اثني عشر ألف بكامل العدة والعدد، فمَنْ يصمد في ذلك الموقف الرهيب إلا رسول الله، حيث نزلت عليه السكينة وعلى المؤمنين من حوله وباء الآخرون بالعار والشنار بفرارهم من الزحف.

وقد يعترض علينا معترض في أنه لم يبارز أحداً وقلما تحدثت السيرة عن أنه قتل أحداً بيده الكريمة، وذلك لأنه رسول الرحمة والكرامة ومثال رحمة الرحمن الرحيم في هذه الحياة وهذه من معجزاته وأنه بنا هذه الدولة والحضارة وحارب أكثر من ثمانين معركة وسرية ولم يباشر القتل بيده الرحيمة، فالرحمة تبني ولا تهدم، وتُحيي ولا تقتل، ولكن سيفه -سيف الله القاطع – كان بتاراً ووصيه كان مغواراً، لا سيما حينما أنزل عليه سيفه ذو الفقار في يوم أُحد وانقطع سيف علي، فأعطاه السيف، وتعجب جبرائيل من مواساته فقال: لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار”.

  • مثال الشجاعة العربية

والحديث عن الشجاعة في أرقى صورها، وأجلى معانيها بحيث أنها لو تمثَّلت بشخص لقلنا: إنه الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، الذي يصف شجاعته ابن أبي الحديد في مقدمته لشرح النهج بقوله: (أما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر مَنْ كان قبله، ومحا اسم مَنْ يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة يُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فرَّ قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية، وفي الحديث: (كانت ضرباته وترا).. إلى أن يقول: (ما أقول في رجل تُحبُّه أهل الذمَّة على تكذيبهم بالنبوة، وتعظِّمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملَّة، وتصوِّر ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها حاملاً سيفه، مشمراً لحربه، وتصوِّر ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها، فكان على سيف عضد الدولة بن بويه، وسيف أبيه ركن الدولة، صورته وكان على سيف ألب أرسلان وابنه ملكشاه صورته كأنهم يتفاءلون به النَّصر والظفر).

⭐ يقول أمير المؤمنين، عليه السلام أيضاً: “لَقد رأيتُني يَومَ بَدرٍ ونحنُ نَلوذُ بالنَّبيِّ (صلى اللَّه عليه وآله) وهُو أقرَبُنا إلَى العَدُوِّ، وكانَ مِن أشَدِّ النّاسِ يَومَئذٍ بأساً

وهذا ما تشهد به العلماء والتاريخ وكل الناس لأن شجاعته صارت مضرباً للأمثال في العرب الشجعان، ولكن هذا المثال الراقي للشجاعة في البشر الذي لا يختلف فيه اثنان كان يقول عن شجاعة رسول الله، وتقدمه على جنده وجيشه في لقاء العدو: (كُنَّا إِذَا اِحْمَرَّ اَلْبَأْسُ وَلَقِيَ اَلْقَوْمُ اَلْقَوْمَ اِتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اَللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَمَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى اَلْعَدُوِّ مِنْهُ”. (مکارم الأخلاق: ج۱ ص۱۸).

قال الشريف الرضي: ومعنى ذلك أنه كان إذا عظم الخوف من العدو واشتد عضاض الحرب فزع المسلمون إلى قتال رسول الله، صلى الله عليه وآله، بنفسه، فينزل الله تعالى النصر عليهم به، ويأمنون ما كانوا يخافونه بمكانه.. والصحابي البَراء بن عازِبٍ يشهد بنفس الشهادة: (كنّا إذا احمَرَّ البأسُ نَتَّقي برسولِ اللَّهِ، صلى اللَّه عليه وآله، وإنّ الشُّجاعَ لَلّذي يُحاذي بهِ). (كنز العمّال: ح35347).

ويقول أمير المؤمنين، عليه السلام أيضاً: “لَقد رأيتُني يَومَ بَدرٍ ونحنُ نَلوذُ بالنَّبيِّ (صلى اللَّه عليه وآله) وهُو أقرَبُنا إلَى العَدُوِّ، وكانَ مِن أشَدِّ النّاسِ يَومَئذٍ بأساً”. (مكارم الأخلاق: ج۱ ص ۵۳).

الإمامُ الصّادقُ عليه السلام: لَمّا نَزَلَت: {لا تُكَلَّفُ إلّا نَفْسَكَ} كانَ أشجَعَ النّاسِ مَن لاذَ برسولِ اللَّهِ علَيهِ وآلهِ السَّلامُ. (بحار الأنوار: 16 ص 340).

ويروي مسلم عن أنسٍ بن مالك قوله: “كانَ رسولُ اللَّهِ (صلى اللَّه عليه وآله) أحسَنَ النّاسِ، وكانَ أجوَدَ النّاسِ، وكانَ أشجَعَ النّاسِ، ولَقد فَزِعَ أهلُ المَدينَةِ ذاتَ لَيلَةٍ، فانطَلقَ ناسٌ قِبَلَ الصَّوتِ، فتَلَقّاهُم رسولُ اللَّهِ (صلى اللَّه عليه وآله) راجِعاً – وقَد سَبَقَهُم إلَى الصَّوتِ – وهُو على‏ فَرَسٍ لأبي طَلحَةَ عُرْيٍ، في عُنُقِهِ السَّيفُ وهو يقولُ: لم تُراعُوا، لَم تُراعُوا”. (صحيح مسلم: ج4 ص ۱۸۰۲ ح 48).

فمثال الشجاعة العربية، وملاذ الأمة الإسلامية كان رسولنا الأكرم، وهذه الشهادات جاءت لتعبِّر عن الواقع الذي لمسته الأمة في رسولها العظيم، وقائدها الحكيم.

وربما يقول قائل: أننا بغنى عن كل هذه الشهادات بشهادة الله تعالى لرسوله الكريم وكماله لأنه قال عنه في محكم كتابه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، نقول له: نعم هذه شهادة الرب من فوق عرشه لرسول الله، بأن أخلاقه عظيمة وأهم صفة في الرجل هي الشجاعة بكل معانيها سواء كانت القتالية والحربية في ساحات الوغى، أو الشجاعة الأدبية في الجرأة بقول الحق والصدق.

وإلا فكيف لرجل واحد وشخص واحد أن يتحدَّى الشرك والكفر والإلحاد في قومه بل في هذه الدنيا ويرفع صوته بالتوحيد ويحارب كل أنواع الشرور بالخيرات، ويناهض كل أشكال الفساد بالصلاح ويسعى للإصلاح ويصرُّ على موقفه ويمضي على رسالته حتى ينتصر عليهم جميعاً؟

وهذا ملخص وخلاصة سيرة ومسيرة رسولنا العظيم وقائدنا الحكيم التي لو جعلنا منها منهاجاً نسير عليه ونربِّي أجيالنا على هداه وعلمناهم تلك الأخلاق الراقية، وغرسنا فيهم الشجاعة الأدبية أولاً ليتعلموا قول الحق ولا يتعتعوا أما سلطان الجور والطغيان، لأنه “لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ القَوِي‌ِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ” (نهج البلاغة؛ صبحي الصالح: 804)، وهنا تكمن ذروة الشجاعة وسنامها الأدبي.

ثم دربناهم على الشجاعة القتالية ليكونوا أسوداً في ساحات القتال لعادت إلينا قوتنا، ورجعت لأمتنا عزتها وكرامتها بشجاعة أبنائها وأبطالها ولبنت حضارتها بدماء شهدائها الأبرار الذين تعلموا الشجاعة من قدوتهم وأسوتهم الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا