حدیث الناس

المواقع الاباحية أم الثقافة الاباحية؟

في متنزه كربلاء المقدسة القديم المجاور لاعدادية كربلاء كان الاطفال القادمين على عربات تجرها الخيول، يجدون ضالتهم ومتنفسهم أيام عيد الاضحى المبارك، فكانوا يمرحون ويركضون في كل الاتجاهات بحثاً عن مكانٍ في هذه اللعبة الكهربائية او تلك اليدوية، تغمرهم البهجة والسرور.

وفي زاوية المتنزه كانت ثمة قاعة غامضة مغطاة بالاقمشة والبطانيات، عرف الاطفال فيما بعد أنها عبارة عن سينما يعرضون فيها الافلام، فيزداد الفضول والتدافع للدخول الى هذا العالم الجديد والمثير.

كان عدد من الشباب يديرون العمل؛ من بواب، وجابي، ومشغّل لآلة العرض القديمة، ومن ينظم جلوس الاطفال المتزاحمين جنباً الى جنب على الواح خشبية، وإذا بهم أمام فيلم خيالي لحيوان هائل يحتجز فتاة، فيواجه تحدي من بطل الفيلم الذي يقضي عليه بحركات بهلوانية غريبة ثم يظفر بالفتاة، وفي مقطع مفاجئ غير مبرر بالفيلم يشاهد الاطفال منظر البطل وهو يقبّل الفتاة فترتفع الاصوات “عيب ..عيب”!!

⭐ يعلم الجميع أن الشهوة الجنسية قوة هائلة في أعماق نفس الانسان، وليست قوة ظاهرية مثل المال والسلاح بالامكان مواجهتهما باجراءات أمنية او ادارية

كان هذا كان يجري في نهاية سبعينات القرن الماضي، ومن السهل تقييم الواقع الاجتماعي في ظل واقع سياسي من نوع نظام حزب البعث الذي كان في أوج اقتداره وهيمنته على البلد، لاسيما في الجانب الثقافي، في مقابل افتقار المجتمع في تلك الفترة تحديداً الى الحوزات والمكتبات والعلماء والخطباء وأي منبع ثقافي وفكري بعد تجميده او القضاء عليه.

ذهب نظام حزب البعث في العراق الى غير رجعة، وظهر نظام حكم جديد من مميزاته احترام عقائد الناس ضمن بنود النظام الديمقراطي، وحتى يثبت انه كذلك راح يصدر قرارات وقوانين تعزز هذا الاحترام وتطئمن الناس على عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتحديداً كل ما يتعلق بالمثيرات الجنسية، من ارتداء الحجاب في المدن المقدسة، وعدم الترويج لدور البغاء والملاهي الليلية في العاصمة بغداد، رغم بعض الأصوات هنا وهناك بضرورة ملامسة “مبادئ الديمقراطية” التي من أجلها تمت الإطاحة بنظام صدام على يد الجيش الاميركي!

إن تشريع قانون القدسية للمدن المقدسة، وإصدار وزيرة الاتصالات في الحكومة المتشكلة حديثاً، قراراً بحجب المواقع الاباحية من شبكة الانترنت في العراق، وغيرها مما تتخذه الدولة في هذا السياق، تُعد خطوات ايجابية لردع الميوعة لدى الشباب وانقاذهم من المثيرات الجنسية الكاذبة، وهي بحاجة الى خطوات اخرى في طريق طويل لتهذيب النفس، ليس عند الشباب وحسب، وإنما عند جميع افراد المجتمع، وتكون البداية من الطفل الصغير بغرز ثقافة “العَيَب” على كل فعل أمامه ينافي العفّة والحياء، وايضاً الاخلاق العامة.

ويعلم الجميع أن الشهوة الجنسية قوة هائلة في أعماق نفس الانسان، وليست قوة ظاهرية مثل المال والسلاح بالامكان مواجهتهما باجراءات أمنية او ادارية، مما يعني أن التربية والتعليم والتثقيف؛ داخل الأسرة، وفي المدرسة، وحتى الشارع والاماكن العامة، كلها ذات مدخلية مباشرة في عملية تهذيب النفس، وتطويع هذه القوة لمصلحة الشاب اليافع المملوء قوة ونشاطاً، وايضاً لمصلحة مجتمعه وأسرته، وحتى شعبه.

كتبنا في مناسبات سابقة أن من دواعي الفشل والتخلف العلمي، انتشار حالة الميوعة لدى الشباب في أي بلد بالعالم، لأن العقل بحاجة الى تركيز ليتمكن من الملاحظة والتفكير والتأمل والابداع، فكيف يستقيم كل هذا عندما يكون صاحبه مثل ورق الشجر يتمايل يميناً وشمالاً مع نسمات الريح.

⭐ من يتحدث عن القوة الهائلة للانترنت في نشر الميوعة والاباحية، عليه أن يلاحظ التراجع في قوة الأسرة والمجتمع في تحصين ابنائها

يكفينا مثالاً من إحدى مدارس الاعدادية للبنات، كانت المديرة قد نظمت اجتماعاً للأمهات لمناقشة قضايا الطالبات ومشاكلهن، ومما طرحته السيدة المديرة؛ تعاون الأمهات مع الإدارة في إبعاد الطالبات المتزوجات عن غيرهن العازبات لتفادي تبادل الاحاديث الخاصة بالحياة الزوجية بين جموع الطالبات، فكان الرد المفاجئ من إحدى الأمهات بأن “ما المانع من أن تسمع الفتيات العازبات تفاصيل الحياة الزوجية، أول تالي كُلهن راح يتزوجِن”؟!

مشكلتنا في هذه القضية تحديداً ليست من العوامل الخارجية فقط، وإن كانت ذات تأثير منذ كانت السينما الوسيلة الوحيدة للإثارة، ثم نافسها التلفاز، ثم تفتّقت الادمغة عن ابتكار حديث يجعل السينما داخل البيوت والغرف المغلقة، وهو جهاز الفيديو في سبعينات القرن الماضي، ومن ثم جاء الانترنت ليكتسح الجميع، ولكن كل هذا لا يمكنه إلغاء الجهد الذاتي والدور التربوي لتقويم الحالة داخلياً، والتجربة أثبتت فشل كل هذه المحاولات بنسب معينة حسب ظروف كل مجتمع.

ومن يتحدث عن القوة الهائلة للانترنت في نشر الميوعة والاباحية، عليه أن يلاحظ التراجع في قوة الأسرة والمجتمع في تحصين ابنائها، فاذا كان الأب او الأم يتصرفون امام الابناء دون مراعاة للحياء والعفّة، واذا كان صاحب متجر للملابس الداخلية النسائية، يعرض بضاعته امام الصغير والكبير، ما فائدة حجب المواقع الاباحية في الانترنت، لان هذه وغيرها تمثل مثيرات جاهزة بالمجان دون عناء الاستعانة بالهاتف النقال والبحث في الانترنت، وما هو أدهى من كل هذا؛ أن الشاب يجد كل المثيرات بشكل مستساغ لا يعترض عليه أحد أمام عينيه، بينما هو يضطر لأحذ هاتفه النقال بعيداً عن الانظار تفادياً للفضيحة والتأنيب.

ولا أجدني مضطراً لأمثلة من من المثيرات في الشارع الآن، ابرزها أنماط الملابس غير المحتشمة للبعض، والسلوك غير المهذب من الجنسين طبعاً، فهو ما يشكوه الكثير من الناس ولا في اليد حيلة او رادع يحدّ من هذه الظاهرة الغريبة على مجتمع مثل المجتمع العراقي المحافظ، حيث نرى الأم بكامل حجابها وعبائتها تصطحب فتيات صغار بكامل تبرجها ومفاتنها، وحتى مع بعض المساحيق…!

نسأل الله الهداية لنا وللجميع لما فيه مرضاته.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا