مناسبات

زواج المصلحة وزواج الرسالة زواج الإمام الجواد، عليه السلام، من بنت المأمون نموذجاً

  • مقدمة

الله ـ سبحانه ـ المتفرد بوحدانيته خلق هذا الخلق أزواجاً ليشهد بوجوده على وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ، قال ـ سبحانه ـ في خلقة البشر: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. (الروم: 21).

فالبشر خُلقوا من نفس واحدة هي (آدم)، وخلق منها زوجها وهي (حواء)، كما هو مشهور العلماء وأقوال المفسرون في تفسير هذه الآية الكريمة، والزواج من سُنن الأنبياء، عليهم السلام، لاسيما الرسالة الخاتمة الإسلامية التي أمرت بالزواج، وحرَّمت الرهبانية، بل جعلت رهبانية هذا الأمة بالصيام، وسياحتها في الجهاد في سبيل الله، فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “اَلنِّكَاحُ سُنَّتِي فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي”، أو (الزواج)، أو (التزويج)، بألفاظ مختلفة تدلُّ على أن هذه سُنَّة من سُنن النبي محمد، صلى الله عليه وآله، عدا عن أنها سُنَّة من سُنن الحياة برمتها وهي أساس الحياة الاجتماعية كلها أيضاً.

  • أنواع الزواج واقعاً

ولا نريد أن نتطرق إلى أنواع الزاوج في العرب جاهليةً، وإسلاماً فهذا بحث له مكانه وإنما نريد بحث المسألة من زاوية خاصة ومعينة وهي المصلحة والهدف من وراء الزواج، فيمكن أن نقول: أن هناك نوعين من الزواج من هذه الناحية هما:

أولاً: الزواج الرسالي، أي تكون المصلحة والهدف من الزواج هو الرسالة الدينية له.

📌 الإمام الجواد، عليه السلام، الذي تزوَّج بابنة والحاكم العباسي، إلا أنه كان يُريد أن يكون زواجه رسالياً بكل ما في الكلمة من معنى ومبنى، ولكن الطرف الآخر وهو عبد الله المأمون فكانت فكرة الزواج منه لمصلحة له

ثانياً: الزواج المصلحي؛ وهو الزواج الذي يكون بهدف ومصلحة دنيوية خاصة كالتقرب إلى الحاكم، أو السلطان، أو النبي، أو الولي فتتقدَّم لخطبة ابنته لتكون بقربه وتكسب صهره فيكون الزواج ما كانت المصلحة، وينهار عندما تتحقق تلك المصلحة، فيتحول إلى كارثة على الطرفين الزوج والزوجة.

  • الزواج الرسالي

وهنا نستذكر في هذا المجال أعظم زواج مثالي في العالمين وهو اقتران النورين، والزواج الرسالي الراقي الذي تم في السماء والجنان قبل أن ينزل إلى الأرض وتتشرف الأرض به وهو زواج علي بن أبي طالب سيد الرجال، بابنة عمِّه فاطمة الزهراء سيدة النساء، عليه السلام، هذا الزواج المبارك الذي جعله الله مقياساً وأصحابه نبراساً في الحياة الاجتماعية كلها.

  • الزواج المصلحي

وكذلك نستذكر زواج الإمام محمد بن علي الجواد، عليه السلام، الإمام التاسع من أئمة أهل البيت، عليهم السلام، لأم الفضل بنت عبد الله المأمون الحاكم العباسي الأشهر، وهو الزواج الذي تحدَّى به المأمون كل بني العباس وأشياعهم وأتباعهم وأجبرهم على القبول به، وذلك بقصة مفصلة وطويلة في كتب التاريخ الإسلامي، وملخصها؛

أن عبد الله المأمون ما أن ثبت عرشه المضطرب بولاية العهد للإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، حتى دسَّ إليه السم فقتله ودفنه إلى جوار والده هارون الرشيد في أرض غربته في طوس خراسان، وضَّب أغراضه وقفل راجعاً إلى عاصمته بغداد التي كانت قبلة الدنيا في ذلك العصر، ولكنه رأى وحشة وبعداً من العباسيين فأراد أن يؤدِّبهم.

 فجاء بالإمام محمد بن علي الجواد، عليه السلام، من المدينة المنورة وأراد أن يزوجه ابنته أم الفضل، ليبقى العباسيون في دائرة الخطر التي كانوا يخافون منها حتى الرعب وهو انتقال الخلافة والحكم إلى بني عمومتهم العلويين وهم يعلمون أنهم أحق الناس بالناس كما يروي المأمون ذلك عن والده هارون شخصياً، إلا أن الملك عقيم ومَنْ نازعه عليه أخذ الذي فيه عينيه.

قال الشيخ المفيد: أنّ المأمون كان مبهوراً بأخلاق، وعلم وأدب محمد بن علي، عليه السلام ؛ ولهذا تمّ الزواج بطلب من المأمون نفسه، أي أن المأمون الحاكم هو الذي خطبه لابنته وليس العكس، وهنا مكمن الخطر في هذا الزواج، لأن العادة أن الرجل هو الذي يخطب المرأة وليس العكس، لاسيما وأنها ابنة الخليفة والحاكم فيجب أن يأتيها الجميع زاحفين نحوها طلباً للقرب من الحاكم.

📌 الإمام محمد الجواد، عليه السلام، فرض مهر أمه فاطمة الزهراء، عليها السلام، على عروسته ابنة الحاكم العباسي

 ولذا عيّن الإمام الجواد، عليه السلام،  صداقها فقط صداق جدّته فاطمة الزهراء، عليه السلام، وهو (500 درهم)، ولم يقبل بالزواج الأسطوري الذي تزوجه المأمون شخصياً من ابنة وزيره الفضل وسارت به الركبان وتحدثت به النسوان، فهو كان ضرباً من الأسطورة والخيال، إلا أنه وقع فعلاً كما في التاريخ كأعظم حفلة زواج في التاريخ حتى قالوا: “يبقى حفل زفاف الخليفة العباسي الشهير “المأمون بن الرشيد” على “بوران” ابنة وزيره الفضل بن سهل عام 209هـ الحدث الأبرز، في التاريخ الإسلامي بأسره، فـ”ليس في تاريخ العرب زفاف أنفق عليه مثل هذا الزفاف”، والذي كان مضرباً للأمثال ليس بين أهل المشرق العربي فقط وإنما في الأندلس أيضاً، فكلما نظموا فعالية كبرى وصفوها بأنها: “أضخم من زفاف المأمون وبوران”.

ولكن الإمام محمد الجواد، عليه السلام، فرض مهر أمه فاطمة الزهراء، عليها السلام، على عروسته ابنة الحاكم العباسي الذي كان يُكلم الغيوم والسُّحب، ولكن ابن الرضا، عليه السلام، لا ينظر على الدنيا إلا بمنظاره الرسالي، والدنيا عنده لا تسوى قلامة ظفر، أو عفطة عنز، أو قشرة شعيرة في فم جرادة تقضمها كما كان جده أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام.

  • الإمام الجواد، عليه السلام،  قدوة حسنة

والإمام في الأمة الإسلامية هو الذي يُقتدى به فيها حيث ينظر إليه الناس في سيرته وسنته ليقتدوا به وأما الحطام والطغاة فإنه لا يقتدي بهم إلا زبانيتهم ومَنْ هم على أشكالهم من المجتمع الفاسد وما يُسمَّى بالملأ الذين يجتمعون حولهم ويلعقوا من صحونهم.

 الإمام الجواد، عليه السلام، الذي تزوَّج بابنة والحاكم العباسي، إلا أنه كان يُريد أن يكون زواجه رسالياً بكل ما في الكلمة من معنى ومبنى، ولكن الطرف الآخر وهو عبد الله المأمون فكانت فكرة الزواج منه لمصلحة له رآها وراح يُنفذها وكانت امتداداً لتزويجه لابنته الأولى من الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، من قبل، والآن رأى أن المصلحة تقتضي أن يزوِّج الإمام محمد الجواد، عليه السلام،  بابنته أم الفضل فزوجها منه رغماً عن أهله وحاشيته جميعاً، لأنه أراد أن يذلهم ويرعبهم لياتوا إليه صاغرين ومَنْ يقرأ ظروف وأسباب الزواج يشعر بذلك كله.

  • نهاية زواج المصلحة

الزواج الرسالي يستمر باستمرار الرسالة في هذه الحياة، وأما زواج المصلحة فإنه ينقطع بتحقيق الهدف أو حصول المصلحة فيتحول إلى كابوس أو عبء لابد من الخلاص منه، وهكذا صارت أم الفضل تبحث لطريقة للخلاص من هذا الزوج العظيم الذي لم تكن أهلاً لتكون له خادمة في بيته، فراحت تدبر المكائد وتتحيَّن الفرص حتى جاءتها الفرصة فدسَّت له السم في طعامه أو في العنب كما هو المشهور.  

قال المسعودي: إنّ المعتصم وجعفر بن المأمون (وهما أخوا أم الفضل) كانا دائماً يتآمران لقتل الإمام الجواد، عليه السلام، وفي نهاية المطاف عندما أُحضر الإمام من المدينة إلى بغداد بأمر من المعتصم العباسي، بادر جعفر بتحريض أم الفضل لتدسّ السّم في العنب وتقدّمه للإمام، فذلك الطعام المسموم كان سببا لاستشهاده، عليه السلام،، في أواخر شهر ذي القعدة الحرام من سنة 220هـ.

إلا أنه يروي ويقول: أنّ أم الفضل بعد أن دسَّت السم إلى الإمام، عليه السلام،  ندمت لفعلتها، وبكيت، ولكنه، عليه السلام، دعا عليها ولعنها”، ألا لعنة الله عليها أبد الدهر.

فعظم الله أجركم يا موالين بهذا الإمام الشهيد المظلوم الذي قضى نحبه بالسم من زوجته وهو في ريعان الشباب،، ولم يتجاوز الربع قرن من عمره الشريف، فجعله الله ـ سبحانه ـ باباً للمراد لمَنْ وقف ببابه ونادى يا سيدي ومولاي وإمامي أيها الجواد.

عن المؤلف

أ.د سادسة حلاوي حمود ــ جامعة واسط ــ قسم تاريخ الأندلس والمغرب

اترك تعليقا