مناسبات

شًهرُ رَمَضَان شَهرُ العَطَاءِ وَتَحَمُّل المَسؤُولِيَّة

📌 مقدمة معرفية

من الضروري جداً أن نعرف ما نحن فيه من هذا الموسم النوراني الذي وهبنا الباري تعالى فيما نسمِّيه بعبادة الصَّوم، وشهر رمضان المبارك، وذلك لأن المعرفة هي مقدمة ضرورية للغوص في بحار هذا الشهر الكريم، وثم التسامي إلى أنوار هذه العبادة الراقية جداً، لأنه في الحديث القدسي المعروف قوله ـ تعالى ـ: “اَلصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ“، فالصوم ليس ككل العبادات والقُربات الأخرى بل هو لله تعالى، لأنه لا يعلم حقيقة صوم الإنسان إلا الله، فمَنْ أراد أن يُفطر كيفما شاء، وبأي طريقة شاء لا أحد يعلم به إلا باريه سبحانه.

فعلى الإنسان المؤمن، والعبد الصائم أن يعرف، ومَنْ لم يعرف عليه أن يسعى ويتعرَّف على فلسفة الصوم الحقيقية، والواقعية ليكون صومه صوم الأكياس من البشر، ولا يُشيب عمله بعمل الأرجاس الذين يُظهرون عكس ما يبطنون من المنافقين والمرائين، وما أكثرهم في كل زمان ومكان.

📌 فلسفة الصوم وحقيقته

المتتبع لآيات القرآن الحكيم يجد أنه يتبع الأحكام بالعلل والأسباب الدَّاعية لها، وهو بحث قرآني جميل وجليل يتطرق به العلماء إلى فلسفة الأحكام وعلل الشرائع، ولذا نجد الآية الكريمة التي شرَّعت الصوم تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. (البقرة: 183).

فعلَّة تشريع الصَّوم؛ هي التقوى، ولكن ما هي التقوى؟

وبجملة مختصرة يمكن لنا القول: أن التقوى لها جانبان أساسيان هما:

أن تتوقَّى الذنوب والمعاصي والموبقات التي نهى عنها الشَّارع المقدس، فتجتنب كل ما حرم الله ـ تعالى ـ.

  • وأن تتقوَّى على الطاعة والالتزام بكل ما أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ.

فالتقوى إذا فهمناها بهذا المعنى والمفهوم يمكن لنا أن نفهم علَّة تشريع الصوم، وأسباب فريضة صيام شهر رمضان المبارك، لأن الصيام من أعظم البرامج الربانية لتربية الفرد المؤمن على أخلاق الله سبحانه التي أمرنا بها المعصوم، عَلَيْهِ السَّلاَمُ حيث قَالَ: “تَخَلَّقُوا بِأَخْلاَقِ اَللَّهِ“، وأخلاق الله هي ما يتجلَّى للخلق بأسمائه الحُسنى، وصفاته المُثلى ـ سبحانه ـ.

📌 شهر رمضان شهر العطاء

ورد في بعض الروايات الشريفة عن أهل البيت الأطهار، عليه السلام، النَّهي عن قول رمضان، بل يجب القول: شهر رمضان لأن رمضان اسم من أسماء الله الحُسنى، فيجب أن نُضيف الشَّهر إلى الإسم تشريفاً، وتعظيماً له ولذا نسميه شهر الله المعظم، وهذا يعني أن اسم الشهر منسوباً على الخالق تعالى وهو أكرم الأكرمين، وأعظم المعطين، ولذا ندبنا الشارع المقدس إلى العطاء بسخاء في هذا الشهر الكريم حيث قال رسولنا الكريم، صلى الله عليه وآله، في خطبته في استقبال شهر رمضان المبارك: “هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اَللَّهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اَللَّهِ“، فأنت مدعوٌّ إلى ضيافة وكرامة رب العالمين، وأكرم المعطين فلماذا تبخل إذن أيها المؤمن، وإذا بخلت بخلت عن نفسك لأن الهدية على قدر العطيَّة؟

فأعط وتيقن بالعوض، واصرف في كل الوجوه الشرعية التي ندبك الشارع لها لا سيما أهل الفقر، والمسكنة، واليتامى، وذوي الحاجات الخاصَّة، فإن العطاء لهؤلاء يُضاعف الأجر والثواب عند الله ولا سيما إذا حصلت على دعائهم فهو غنيمة لك لا تفرِّط بها، ولذا قال رسول الله، صلى الله عليه وآله : “تَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ، وَمَسَاكِينِكُمْ“، والصَّدقة تنمِّي المال، وتُنسئ في الأجل، أي تزيد المال، وتُطيل العمر، وماذا تريد أكثر من ذلك أيها العزيز؟

فالعطاء في هذا الشهر يكسر ظهر الشيطان الرجيم، ويُزكي النفس، وينفي الفقر، ويستنزل الرزق، ويعمِّر الدِّيار، ويدفع الهدم، والرَّدم، وسبعين نوعاً من البلاء الذي يمكن أن يُصيب الإنسان، بل ويدفع القضاء وقد أُبرم إبراماً من السماء، وميتة السُّوء..

والعطاء في هذا الشهر مضاعفاً بالأجر والثواب وبكل أنواعه وأشكاله، فهو يغفر الذَّنب، ويُرضي الرَّب سبحانه وتعالى، ويتقبل الله الصوم والعطاء منك ويرفع لك ذكرك بين المؤمنين وفي أعلى عليين، فالعطاء قيمة راقية جداً يجب أن نفهمها ونعيها في شهر الصوم، هذا وقد تحدثنا عن العطاء المادي فقط لأننا قاصرون عن تحديد العطاء المعنوي فهو من عطاء الله الذي لا يُحد ولا يُعد.

📌 شهر تحمُّل المسؤولية

هذا الشهر الكريم والموسم النوراني العظيم من أعظم ما يجب أن نفهمه ونعيه هو تحمل المسؤولية الشخصية عن النفس حيث يجب على الإنسان أن يُطهِّر نفسه، ويُزكيها بكل ما ورد في الروايات الشريفة لا سيما تلاوة آيات القرآن الحكيم، والتدبر فيها، ومن ثم الأدعية والأذكار المختلفة التي أفعم الأئمة عليهم السلام بها هذا الشهر الكريم، فلكل يوم، ولكل ليلة ولكل لحظة يمكن أن نجد هناك عملاً ودعاء وذكراً نتسلَّح به في تقوية أنفسنا بالتقوى، ونروِّض أنفسنا بالبذل والعطاء المادي والمعنوي.

📌 على الإنسان المؤمن، والعبد الصائم أن يعرف، ومَنْ لم يعرف عليه أن يسعى ويتعرَّف على فلسفة الصوم الحقيقية، والواقعية ليكون صومه صوم الأكياس من البشر

وتحمُّل المسؤولية له عدة جوانب (شخصية فردية، وأسرية أهلية، واجتماعية وأميَّة)، ولك من هذه الجوانب مسؤوليات عظيمة على الصائم أن يتحمَّلها ليُقوي بها نفسه، وأسرته الصغيرة، وينطلق بعدها إلى المجتمع حيث الأمة الإسلامية التي يجعل منها شهر رمضان أمة الجهاد والكفاح والمعنوية في أعلى درجاتها، لأن في هذا الشهر الكريم يجمعها على مائدته، وما أعظمها من مائدة فرشتها السماء، وأجزل الرب فيها العطاء.

فلو التفتت الأمة الإسلامية لهذا المعنى العظيم لشهر رمضان، وأنه جامع لها وصابغ لشعوبها وناسها في كل مكان على وجه هذه المعمورة، وأن المسلم أخو المسلم، والمؤمن مرآة المؤمن، وتعاطت بهذه المفاهيم الجامعة، وعكستها كلها على القيم العظمى للإسلام وقوته، وعزته وكرامته وهيبته في العالم لرأينا كيف أن العالم المعادي والمستكبر يهاب الإسلام، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً لما يرون فيه من تعاطف، وتآلف، وتكاتف، ومحبة بين المسلمين، الذين يجتمعون على مائدة الرَّب سبحانه في شهر رمضان الخير والبركة والعطاء.

 وفي الحقيقة والواقع الذي نشهده في كل بلاد المسلمين رغم أننا أعظم أمة على وجه الأرض، إلا أننا غثاء كغثاء السَّيل كما أخبرنا رسولنا الكريم، صلى الله عليه وآله بقوله: “يُوشِكُ اَلْأُمَمُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى اَلْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، قِيلَ: أَ وَ مِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ اَلسَّيْلِ، وَلَتُنْزَعَنَّ اَلْمَهَابَةُ مِنْكُمْ، وَلَيُقْذَفَنَّ اَلْوَهْنُ فِي قُلُوبِكُمْ، قَالُوا: وَمَا اَلْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ اَلدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ اَلْمَوْتِ“.

نعم؛ حب الدنيا نخر القلوب، وعشش فيها الشيطان، و”حب الدنيا رأس كل خطيئة”، وهذا ما جعلنا نتقاعس عن الواجبات الأساسية في الأمة الإسلامية وخاصة الجهاد، والدفاع عن حياض وبيضة هذه الأمة المرحومة، لأن الجهاد سنام الإسلام وعز المسلمين، وهو الذي يعطي الأمة عزتها وشرفها وكرامتها بين الأمم.

فمن مسؤوليتنا تجاه الأمة الإسلامية في هذا العصر يُحتِّم علينا أن نسعى لإعادة روح الأمة في الجهاد، والنضال، والكفاح، لا سيما في شهر الله المعظم، شهر رمضان الذي كانت كل الإنتصارات الحضارية من غزوة بدر الكبرى وفتح مكة المكرمة فيه، فهي ربما إشارة من الله تعالى إلى هذه النكتة الراقية وكأنه يقول لنا: إن انتصاراتكم الحضارية اجعلوها في شهر رمضان المبارك ليكون أجركم عظيماً ونصركم كبيراً.

كما أننا نستفيد من ذلك بأمر الباري لنا بالجهاد في القرآن الحكيم، في قوله ـ تعالى ـ: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}. (الفرقان: 52)، فالجهاد الكبير يجب أن يكون بالقرآن الحكيم، أي الجهاد الفكري، والعقائدي، والثقافي، والروحين، والعبادي، لأن ترسيخ القرآن وقيمه الحضارية في المجتمع الإسلامي هو الذي يرفع الأمة ويجعلها أمة حضارية فاعلة ونشيطة تتحدى كل قوى الشر الطاغوتية والشيطانية.

📌 وأخيراً

شهر رمضان هو من أعظم المحطات التي تشمل كل أنواع الإعداد الروحي والعقائدي والثقافي للأمة الإسلامية إذا فهمنا فلسفة الصوم، وعلَّة تشريعه في هذه الأمة المرحومة، لأننا عندها سنتحمل المسؤولية ونتخلَّق بأخلاق الرب الكريم بالعطاء والبذل في سبيل الله والمستضعفين فترتفع الأمة كلها وتعود لها قوتها وريحها وهيبتها في هذه الحياة.. تلك هي رسالة هذا الشهر الكريم، وفلسفة صومه في هذا العصر الرهيب في تحدياته الكبرى تجاه هذه الأمة المباركة.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا