مكارم الأخلاق

دور العادة الأخلاقية في تقويم السلوك*

قال الله ـ تعالى ـ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.

هناك أمور لا ينبغي أن تتكرر ـ مثلا ـ الأخبار في الجريدة، فإذا كانت قد طبعت يوم أمس فلن يقرأها أحد من الناس، إذ لا قيمة للخبر المكرّر، وهناك أمور لابد من تكرارها، كالعلاج ـ مثلا ـ فإذا كان أحدهم مريضا، ومصابا بمريض طويل، وقد اعطاه الأطباء المختصون دواءً لمرض، وعليه ـ المريض ـ أن يستمر في أخذه فترة من الزمن، وكلما ذهب المريض الى الطبيب، فإنه يكرر عليه ما قاله في السابق؛ أي أن عليك أخذ الدواء ثلاث مرات في اليوم.

لعل المرض المريض يقول للطبيب: إنك قلت لي هذا الامر سابقا فلماذا تكرر عليَّ؟

فيقول له الطبيب: إنك لم تلتزم بالتعليمات التي قلتها لك! وإلا فما الداعي أن تعودني مرة ثانية وثالثة!.

 فيما يرتبط بالاخلاق نحتاج الى التكرار لأنفسنا وللآخرين، خاصة لأنفسنا لأننا مكلفون بإنقاذها أولاً، وإذا كان هنالك أحد استطاع ان ينقذ نفسه من نار جهنم وأن يضمن لها الجنة، ولو لم يقم بأي عمل ـ لم يبلغ أحد من الناس، أو لم يربِّ أحداً من العالمين لكفاه ذلك، ولو كان العكس؛ بأن ينقذ أحدهم حياة الكثير من الناس، لكنه لم ينقذ نفسه من نار جهنم، فما قيمة عمله هذا! فهو قد وضعه رقبته جسراً على نار جهنم وعَبَر عليه كثيرون، أما هو فاحترق في النار، فنحن نحمل رسالة لأنفسنا أولا، وربما بمقدار ثمانين بالمئة مما نحمله للآخرين.

أنت حينما تتعامل مع الناس ليس بناءً على عقيدتهم، وليس بناء على إخلاصهم، وإنما بناء على اخلاقهم؛ فأنت تصادق من يكون صادقاً معك، وصديقا لك ومساعدا، لكنك لا تهتم بالذي يفعله؛ هل هو نابع عن ايمان قلبي عظيم؟ أم بغير ذلك؟

وهنا لابد من طرح سؤال مهم: هل الدين جعل الأخلاق في الاولوية؟

وهل الأخلاق من الواجبات أم من المستجبات؟

وهل الأخلاق مثل الصلاة والصيام والحج أم أنها مثل أي عمل نقوم به مع الناس؛ فإذا كان هناك رجلا محتاجا فلك أن تساعده أو تتركه غيرك ليساعده؟

الاخلاق جوهر الدين

إنّ أساس الدين هي المعارف، وجوهره الأخلاق وهي بناؤه الاساسي، لذلك لو أنك اردت ان تبني بيتا، فإنك تولي الاهتمام بالأساس ومواد البناء وما اشبه، لكن لو لم تولي الاهتمام اللازم لذلك، فإنك لن تبني بيتا يقيك الحر والبرد، فالجانب المعرفي في الدين؛ الإيمان بالله، ومعرفة النبي والإمام، ومعرفة اولياء الله، فهذه هي القضايا الاساسية في الدين، لكن البناء الذي يبنى على هذا الاساس هو الأخلاق.

فأنت حينما تتعامل مع الناس ليس بناءً على عقيدتهم، وليس بناء على إخلاصهم، وإنما بناء على اخلاقهم؛ فأنت تصادق من يكون صادقاً معك، وصديقا لك ومساعدا، لكنك لا تهتم بالذي يفعله؛ هل هو نابع عن ايمان قلبي عظيم؟ أم بغير ذلك؟

الذين يقولون إنّ الاخلاق من المستحبات لا ينظرون الى جوهر الاخلاق بل الى بعض المسائل الاخلاقية، أي الى الواجبات الكفائية، لكن الاخلاق من الواجبات العينيّة بالإضافة الى الواجبات الكفائية؛ ـ فمثلا ـ قد تمشي في الشارع وترى رجلا كبيراً في السن على قارعة الطريق، فقد تساعده وقد لا تساعده، فليس من الواجبات العينيّة، لكن عليك أن تكون صادقا، وكريما وشجاعا.

جرّب أن تكتب المفردات الاخلاقية في ورقة، وقارن نفسك على كل واحدة منها؛ هل أنت كريم؟

هل أنت شجاع؟

هل أنت تساعد الناس؟

هل تهتم بالفقراء؟

إذا اراد احدهم ان يتوظف بدائرة من الدوائر، فإنهم يسألون عن مؤهلاته؛ ما المؤهلات الاكاديمية؟ وشهادة الخبرة وما اشبه، فالذي قدمه إنما هو شرط لقبوله في العمل، لكن حين يصبح موظفا فإن عليه أن يعمل وفق الشرط.

لا قيمة لمن يتشدق باسم الله والايمان، ويتحدث عن الانبياء والصالحين من عباد الله، ويلقي افضل المحاضرات بحقهم، وهو غير ملتزم بأخلاقهم وآدابهم، ذلك كله لا يكفي، بل يجب أن يعمل ويتخذ اولئك الانبياء والصالحين قدوة واسوة ويسير في طريقهم.

كيف نربي أنفسنا على الاخلاق؟

حينما نتحدث عن الأخلاق لا نتحدث عن عمل مفرد، فلا أحد يقول: أن تكون مرة واحدة شجاعا، وكذلك الكرم وما اشبه من الصفات الاخلاقية، بل الكلام يكون عن العادات؛ اي عادات الناجحين، وعادات الذين اخلاقهم طيبة وحسنة.

والعادة لا تكون إلا بالتكرار، فالإنسان ـ مثلا ـ حينما يبدأ في تعلم سياقة السيارة، فلا احد يتكلم معه، لانه قد يشتت انتباهه وحواسه، فعينيه على الطريق، ويديه على المقود، ورجليه على البانزين والفرامل فهو مركز بشدة على اداءه اثناء القيادية التعليمية، لكن بعد أن يتعلم القيادة شيئا فشيئا، فبإمكانه ان يتحدث مع صاحبه، وان يستمع الى محاضرة، بالاضافة الى ان فكره في مكان ثالث، فهو قد تعود على ذلك واصبح الامر لديه سهل جدا.

إن الشاكلة مهمة جدا في صياغة روحية ونفسية الفرد المؤمن على الأخلاق الحسنة التي يضعها امامه، ولذا يجب أن نجعل المفرادت الاخلاقية نصب اعيننا ونطبقها على انفسنا

لذا فنحن بحاجة الى العادات الاخلاقية؛ يقول الله ـ تعالى ـ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ الشاكلة اي تلك الامور الروحية التي تدرب وتمرن عليها، واصبحت هي حقيقة الشاكلة، فهناك الشكل وهو المظهر الخارجي، وهناك الشاكلة وهي الامور التي تعود عليها الانسان، فالكريم الذي عادته الكرم فهو يمتلك شاكلة الكرم، وكذلك في الشجاعة وما اشبه.

كيف نتعود على الاخلاق الحسنة؟

نحتاج في بداية الامر الى التركيز على العادات الاخلاقية وفيما بعد سنتعود عليها، يقول الامام الصادق،عليه السلام: “يجب على المرأة إذا حاضت ان تتوضأ عند كل صلاة، وتجلس مستقبل القبلة، وتذكر الله بمقدار صلاتها كل يوم”.

فالمرأة وخلال فترة الحيض أيا كانت مدتها، فمثلا إذا كانت عشرة ايام حائض ولكنها لا تجلس في مصلاها وتقطع من ذكر الله في اوقات الصلاة، فكأنها نست السياقة وهي بذلك الى التعليم من جديد، فهناك العادات الحسنة وليس المفرادت الحسنة.

ولذا يجب أن يتعود الإنسان المؤمن أن يكون معطاءاً، فمثلا التعود على مساعدة الاخرين، فالبعض ـ مثلا ـ حين يجتمع ـ على طعام ـ مع عائلته او اصدقائه، فإنك تراه مبادراًـ ولو لم يكن مكلفا، ولا ينتظر أحدا ليأمره بذلك، فهو أين ما كان يساعد الآخرين بأي شكل من الأشكال.

وكذلك الذي يساعد الفقراء والمساكين، فإذا رأى فقيرا فإنه يتفاعل ويعطي من نفسه، ولا ينتظر الآخرين ليقوموا بذلك الدور، فهو يعتبر نفسه الشخص الذي يكتفي الآخرون به، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}، بالإمام علي، عليه السلام، فهو شجاع بطبعه وليس اجبارا، فهو كان يختار العمل الصحيح.

وهو القائل عليه السلام: “وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ”، فقد كان، عليه السلام، مختارا في عمله.

إن الشاكلة مهمة جدا في صياغة روحية ونفسية الفرد المؤمن على الأخلاق الحسنة التي يضعها امامه، ولذا يجب أن نجعل المفرادت الاخلاقية نصب اعيننا ونطبقها على انفسنا، وذلك يكون بالتمرين والتعود عليها شيئا فشيئا، ومن المهم جداً التعود على ما هو جيّد وحسن، وفي ذات الوقت لابد من تغيير كل عادة سيئة قبل أن تتحكم في النفس.


  • مقتبس من محاضرة آية الله السيد هادي المدرسي

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا