مناسبات

ماذا خسرت الأمة بابتعادها عن الغدير؟

ما الذي كان سيحدث فيما لو تحققت واقعة الغدير، وكان الإمام هو الحاكم المباشر بعد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله؟!

مع التداعيات الخطيرة، والهزائم، والانحرافات والانهيارات طيلة القرون الماضية، ينبغي البحث في الخسائر التي تكبدتها الأمة بإقصائه من مكانته الإلهية.

واقعة الغدير من الأيام العظيمة في الإسلام، كما ورد فيها الكثير من روايات المعصومين، عليهم السلام، لما فيها من مفاهيم عقائدية واسعة المضامين، من خلال تنصيب الإمام عليٍ، عليه السلام، لإمرة المؤمنين، من قبل الله – تعالى- لقيادة المجتمع المسلم بأسره، خليفةً لرسول الله، صلى الله عليه وآله، التي اخذها من النبي الاكرم، بالحديث المعروف: “من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه”.

لذا فَضَّلَهُ رسول الله، صلى الله عليه وآله، على جميع المسلمين منذ بداية الإسلام، وهو حقٌ وهِبَ لأمير المؤمنين، عليه السلام، من الله تعالى، ومن ثَم هو أمر إلهي بإبلاغ هذه الولاية، وقد ربطت السماء بين الولاية له، عليه السلام، وبين إبلاغ الرسالة برمتها.

فتم الإبلاغ من قبل النبي، صلى الله عليه وآله، الى جمهور المسلمين، بأن علي بن أبي طالب، عليه السلام، هو أمير المؤمنين من بعده، وكان ذلك في واقعة الغدير، في طريق العودة من آخر حجّة للنبي الأكرم،  سُميت بـ «حجة الوداع»، فبايعه جميع المسلمين الحاضرين، وقد اختلف المؤرخون عن العدد الحاضر، فقال بعضهم: أن العدد كان يربو على مائة ألف مسلم.

فيا ترى؛ أين حلّ ذلك الجمع الهائل من المسلمين عندما كان، صلى الله عليه وآله، مسجّى وفي اللحظات الاخيرة له في دار الدنيا؟ لم يبق إلا نفرٌ قليل على العهد، من أمثال سلمان الفارسي وعمار بن ياسر وأبى ذر الغفاري والأحنف بن قيس وغيرهم، فكانت النتيجة أن هذه الأمة، تحاملت على أمير المؤمنين، عليه السلام، بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وآله، وأجحفت حقه، رغم مؤهلاته الاستثنائية لخلافة رسول الله، صلى الله عليه وآله، كما ذكر في زيارة أمير المؤمنين الغديرية: “وَحالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مواهِبِ الله لَكَ”. أي إن هناك مواهب إلهية عظيمة، فشلت الأمة في الاستفادة منها في شخصه الكريم، عليه السلام، وفي مقدمتها القيادة؛ لذا بقي الإمام، عليه السلام، بعيداً عن الحياة السياسية وعن صناعة القرار قرابة خمسة وعشرين عاماً، تكبدت فيها الأمة خسائر فادحة وكبيرة في ضياع الكثير من القيم والمفاهيم والموازين المقدسة التي خلفها لهم رسول الله، صلى الله عليه وآله، لحياة سعيدة، مثل العدل والحرية والكرامة الانسانية.

 الأمة تؤوب بعد مقتل عثمان

لم يدرك المسلمون حجم الخسارة التي لحقت بإبعادهم الإمام عليَّاً، عليه السلام، عن قيادة الامة، إلا بعد أن “بلغ السيل الزُبى” في عهد الثالث (عثمان بن عفان)، حيث انتشر الظلم والجور، والاستئثار بأموال المسلمين وتفريقه على المقربين من الحاكم، وما كان أكثر شدة وقساوة على قلوبهم، نثر أموالهم على أقدام الأمويين، من أبناء وأحفاد الطلقاء وأعداء الاسلام والنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فكان ذلك الغليان الشعبي العارم الذي تذكره كتب التاريخ، ولم يعد المسلمون يطيقون الظلم والاجحاف والاستهتار الأموي تحت اسم “الخلافة الاسلامية”، ومن ثمّ كانت واقعة محاصرة دار عثمان لإخراجه ومساءلته، وما أعقب ذلك من حادثة اغتياله على يد الأمويين أنفسهم، كما يشير الى ذلك الباحثون والمؤرخون.

بعد أن كان الإسلام مدعاة الى الحرية والعدل والنماء والتقدم، تحول في عيون المسلمين الى “إسلام السلطة” الذي يدعو الى الخضوع والخنوع والاستسلام للحاكم الظالم

وبعد هذه الواقعة اتجه الناس بأجمعهم الى دار أمير المؤمنين، عليه السلام، يطلبون منه بسط يده ليبايعوه خليفة في نهاية المطاف!

ولكن؛ هل كانت هذه البيعة امتداداً للبيعة الغديرية التي بايعوها أمام نبيهم الكريم، في غدير خم؟ هذا هو السؤال الجوهري.

طبعاً؛ كان الإمام علي، عليه السلام، عارفاً وعالماً بالنفوس، وقد خَبِرَ الأمة؛ بكل شرائحها وأصنافها خلال السنوات الماضية، لذا رفض طلب البيعة منهم، لأنها كانت – بالحقيقة – امتداداً لرغباتهم وطموحاتهم الشخصية التي تمثل انعكاساً للحقبة الماضية، فتصور البعض أنه من خلال تقربه للإمام، يتميز عن الآخرين بالعطاء والتشريف، لذا قال لهم في خطبته، عليه السلام: “دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي”، فكان ذلك إتماماً للحجة عليهم، ثم أعلمهم بالأيام القادمة التي لها وجوه وألوان غير الذي اعتادوا عليه سابقا، بالشكل الذي لا يصبرون عليه، في إحقاق الحق وإدحاض الباطل، بل يقيمهم على المحجة البيضاء، ويسير فيهم بسيرة رسول الله، صلى الله عليه وآله، ثم أعلمهم بأنهم ناكرون لبيعته فيما بعد، كما بين، عليه السلام، أن خلافته؛ هي التطبيق الحقيقي لسنن الله تعالى، التي ما نزال نعيش حلاوتها، من انعكاس للنظام المتكامل لحياة الانسان في المجالات كافة.

ما بعد الخلافة الحقيقية

إن الخسارة الكبرى للأمة الإسلامية، تمثلت عندما نزا الامويون على السلطة بعد استشهاد الامام علي، عليه السلام، وتم تغييب مبادئ وقيم الغدير، التي رسم معالمها رسول الله، صلى الله عليه وآله، وترسخ مكانها مبدأ السلطنة والملوكية الوراثية المتلبسة بلباس الدين، وأعطت هذه السلطة صورة للإسلام غير صورته الحقيقية، التي اراد له الله – تعالى- من خلال نبيه الكريم ووصيه أمير المؤمنين، عليه السلام.

فبعد أن كان الإسلام مدعاة الى الحرية والعدل والنماء والتقدم، تحول في عيون المسلمين الى “إسلام السلطة” الذي يدعو الى الخضوع والخنوع والاستسلام للحاكم الظالم، وتكميم الأفواه واضطهاد المعارضين والناصحين في الوقت نفسه، حرصت السلطة آنذاك على الاهتمام بالمظاهر والقشور التي تخدم السلطة الظالمة، مثل أداء الفرائض العبادية، من صلاة الجماعة والحج وغيرهما.

 بيد أنها كانت فارغة من المحتوى ومن الغاية التي سُنت لها، كأن تكون: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، -مثلاً- وهكذا الامثلة عديدة، من هنا؛ أنتج الأمويون من تلك الحقبة، الفكر المتطرف والاسلام القشري الذي يبيح الذبح والجلد وبتر الاطراف والتنكيل تحت شعارات دينية تنمّ عن تحجّر في العقول، وخلط في الفهم بإزاء التعاليم الإلهية، وبذلك تكون الأمة قد صُدمت مرة أخرى بنتاج عملها وتنكرها للحق وغضّ الطرف عن منهج الغدير وبيعتهم لأولي الأمر الذي نصّت عليهم الرواية من النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله.

واستمر الحال في الأمة الإسلامية حتى يومنا هذا في اتباع حكام وأنظمة سياسية من هذا السنخ، حتى أصبحت سيرتهم، صورة مشابهة لسيرة من سبقهم من حكام الجور، من صدر الاسلام، لأن “القوم ابناء القوم”، حيث ما فعل أجدادهم من مخالفة الدين ومحاربته، لأجل مصالحهم الخاصة، وها هم أحفادهم يشيعون الفساد في البر والبحر بما كسبت أيديهم وأيدي الناس ايضاً، ولا يتناهون عن أي ظلم فعلوه، وغير ذلك من قتل الملايين من البشر وتشريدهم وتجويعهم، وكل هذه الصورة المُشَوِهَة للإسلام سببها الابتعاد عن منابعه الحقة التي تبني النفوس والارواح بناء علمياً وعقلياً، بعيداً عن الخرافة والجهل والتخلف.

 الحنين الى الجاهلية!

هل يبقى أثر للماء النقي والعذب عندما يختلط بالعفن والنتن؟!

هكذا حال معظم النفوس والقلوب في تعاملها مع الغدير، فقد كانت رواسب الجاهلية عالقة في نفوس الكثير من الشخصيات البارزة فضلاً عن عموم المسلمين، ولم يتمكنوا من التخلص منها بصورة كلية، ولعل من اسباب ذل العجز؛ الابتعاد عن المبادئ الاسلامية الاصيلة وزرع بذور الانحراف، ووضع الاحاديث ونسبتها الى النبي الأكرم، ومحاولتهم جر الاسلام بعيداً عن مسيرته الصاعدة، وعن منابعه الأصيلة، كالعصبية القبلية والحمية الجاهلية وحبّ الأنا والذات وتغليب الغرائز والنوازع النفسية على الفضائل والمكارم، جعل مسيرة الاسلام تكون بالشكل الذي نراه اليوم، بحيث نلاحظ كيف انه بات هدفاً سهلاً للهجمات الخارجية من شتى الجبهات؛ الثقافية والعسكرية والاقتصادية وغيرها.

إن الخسارة الكبرى للأمة الإسلامية، تمثلت عندما نزا الامويون على السلطة بعد استشهاد الامام علي، عليه السلام، وتم تغييب مبادئ وقيم الغدير، التي رسم معالمها رسول الله، صلى الله عليه وآله

كل هذا ما كان ليحصل لو ان أمير المؤمنين، عليه السلام، تولّى أمر قيادة الامة في ضوء بيعة الغدير، وفق البلاغ السماوي، بل لكانت الامة تنعم بالإسلام الحقيقي وما يضم من نظم وتعاليم، كلها في مصلحة الانسان وخيره، بعيدا عن التشويش والتزويق والتخدير والانحراف، ولأصبح لدينا إسلام الاصالة والمبادئ الانسانية السامية التي تستوعب الآخر المختلف، ولا تدعو الى استئصاله، بل تدعو الى العدل والمساواة والمحبة والحرية والسلام، وبناء النفس قبل بناء الشكل والصورة.

من هنا؛ فإن المفاهيم والتشريعات التي ينطوي عليها الغدير، جاءت للتخلص من السلبيات التي تحيط بالمجتمع، ولتطبيق القواعد التشريعية التي أمر بها رب العزة، على يد أشرف خلق الله تعالى بعد النبي، صلى الله عليه وآله، فكان الامر الالهي بتنصيب راعٍ للرسالة من بعد رسول الله، والتي أنتجت هذه البيعة عيد الانسانية العالمي.

  مسؤوليتنا اتجاه الغدير

تأكيداً لهذا الموقف، ولمنع الانحراف عن المبادئ الاسلامية الاصيلة، التي جاءت من يوم الغدير، الذي هو يوم تأسيس العدالة الإنسانية، لمن يمكنه ان يكون راعيا للرسالة، ومتحملاً لهذه الأمانة التي أصبحت على عاتقنا، ومن أجل إيصال أهداف الغدير، لابد من المبادرة إلى نشر  المبادئ الاصيلة التي أراد تكريسها أمير المؤمنين، من خلال وعي الناس على معنى يوم الغدير وإفهامهم بأن هذه الواقعة إنما جاءت من أجل الإنسانية جمعاء، وتفويت الفرصة على مريدي الانحراف، والحفاظ على وحدة المسلمين.

لقد حرص أمير المؤمنين على بناء منظومة اخلاقية وثقافية، مع استبعاد المنظومة الاخلاقية الجاهلية التي لا تنسجم والهدف الانساني للإسلام، ومن ثَمَّ علينا اتباع اهدافه، عليه السلام، في تركيز دعائم الإسلام بغية تغيير المجتمع وإعادته الى المنهج الاسلامي الصحيح، غير ما اعتاد عليه من منهج التطرف والتعصّب الذي سنّه وشرعه أولئك الذي بخسوا حق أمير المؤمنين، عليه السلام، لذا علينا أن نحيي مناسبة الغدير بالكيفية التي نطبق المفاهيم والمبادئ الأساسية التي من أجلها كانت واقعة الغدير في إكمال الدين وإتمام النعمة.

من أجل ذلك يجب نشر الوعي الجماهيري لإيصال المعنى الحقيقي للغدير؛ ليس فقط في الاحتفال به كعيد عظيم، بإظهار البهجة والسرور وإقامة الحفلات والولائم والتجمعات الجماهيرية وحسب، إنما المهم جوهر القضية، التي تمثل مظلومية أمير المؤمنين، عليه السلام، ومظلومية الاسلام.

والأمر الآخر في مسيرة إحياء هذه المناسبة العظيمة، في عدّها من الشعائر الإلهية التي من خلالها نعكس للعالم بأسره المراسيم الحقيقية لهذا اليوم الكبير الذي يجب أن توسع معالمه عن طريق الأمناء على الدين، وأولهم مراجعنا الكرام والعلماء الافاضل، ومن ثم المبلغون الذين هم ممن تتوسع مهمتهم في الحفاظ على المبادئ الحقيقية التي يجب على الناس في أحياء يوم الغدير الذي أرسى قواعده رب العزة تبارك وتعالى، على يد النبي الأكرم من أجل إكمال الدين وإتمام النعمة.

ولولا يوم الغدير لما آمنا بالإمام المهدي المنتظر، عجل الله تعالى فرجه، فمن أجل ذلك أن الهدف الذي كان سيحققه الإمام أمير المؤمنين، عليه السلام، يوم الغدير، سيظهر من أجله الإمام القائم المنتظر المهدي، ويتحقق على يديه أهداف جده علي عليه السلام.

عن المؤلف

الشيخ ماجد الطرفي

1 تعليق

اترك تعليقا