حدیث الناس

الطالب أكثر التزاماً بالاجراءات الصحية وأكثر مظلومية!

يتميز العراق بين محيطه الاقليمي، وربما الأبعد، بنسبة ضئيلة من الاضرار بجائحة كورونا من حيث الاصابات والوفيات، مع ارتفاع ملحوظ ومفرح في حالات الشفاء، حتى تم إخراج العديد من مراكز الحجر الصحي عن الخدمة للمصابين بكورونا، وعودتها الى وظيفتها الاساسية، كما حصل في كربلاء المقدسة بعودة مدينة سيد الأوصياء للزائرين لتحتضن العوائل العراقية للتنزّه بين حدائقها الغنّاء، بعد أن استضافت المصابين بكورونا طيلة أشهر عديدة.

وقد انعكس هذا التراجع في الاصابات والوفيات لأن تعود الحياة الطبيعية الى الدوائر الحكومية والمراكز الانتاجية والطرق الرئيسية بعد اجراءات حظر مشددة وإغلاق تام جربه العراقيون كما هم سائر الشعوب في المنطقة والعالم للوقاية من هذا الوباء الخطير.

إنما الملاحظ في الشارع العراقي، عودة الحياة والحيوية الى الاسواق، والمتنزهات، والمراكز التجارية، والمطاعم، وصالات الاعراس، فضلاً عن الدوائر الحكومية بازدحاماتها المعهودة، إلا مكانا واحدا بقي دون حياة، صفوف كبيرة، وساحات واسعة، يلهو فيها الغبار ويعلوها التراب، وربما تسرح فيها القطط والطيور! بعد أن كانت من أكثر الاماكن حيوية في البلاد كلها.

 

الملاحظ في الشارع العراقي، عودة الحياة والحيوية الى الاسواق، والمتنزهات، والمراكز التجارية، والمطاعم، وصالات الاعراس، فضلاً عن الدوائر الحكومية بازدحاماتها المعهودة، إلا مكانا واحدا بقي دون حياة

 

إنها المدارس والجامعات بقيت خاوية على عروشها منذ ظهور الوباء في العراق في شهر اذار من العام الماضي، فتعثرت الامتحانات، لاسيما الصفوف المنتهية (السادس ابتدائي- الثالث متوسط- السادس اعدادي)، وكذا الحال عند طلبة الجامعة، وانزلقت في دهاليز التأجيلات المستمرة، والمثير في الأمر، أن المخاوف من الاصابة بكورونا تراجعت في كل مكان، وتشثبت بالمدارس والجامعات بشكل غريب!

الحجة المطروحة على الطاولة؛ ضمان صحة وسلامة الطلبة من كورونا، كون المدارس والجامعات معروفة بشدة التقارب والاحتكاك بين الاطلاب، اكثر من سائر الدوائر الحكومية والمراكز العامة، مع احتمال سرعة العدوى من طالب الى آخر، وربما تورط الكادر التدريسي في هذا المرض الخطير وتعرض حياته للخطر ـ كما يهوّل البعض-.

بيد أن ملاحظة بسيطة غاية في الاهمية غابت عن هؤلاء المهولين ودعاة إغلاق المدارس والجامعات، أن الطلاب أكثر التزاماً بالاجراءات الصحية من غيرهم في الاسواق والدوائر الحكومية والاماكن العامة، والجميع يعلم كيف يكون حال المراجعين الى الدوائر الحكومية وتدافعهم على غرفة الموظف والمدير للحصول على توقيع، او تحويل، او لدفع مبلغ الرسم، وغيرها؟ وكذا الحال في صالات الاعراس، والمولات التجارية، وسيارات الأجرة بين المحافظات وأسواق الخضار والفاكهة، أي واحد من هؤلاء، ربما يكون من المستحيل دعوتهم للإصغاء للتعليمات الصحية، او اجبارهم على الالتزام بالاجراءات مثل لبس الكمامة والتباعد الاجتماعي، بينما هو سهل يسير في المدارس والجامعات حيث يكون فيها الطالب بالاساس منضبط وحريص على سمعته من عيون الكادر التدريسي، ومن العقوبات التي تترك أثرها على مستواه الدراسي وحتى وجوده في المدرسة او الجامعة اذا ما خاض مواجهة عنيفة يريد بها اثبات رأيه امام المدرس.

 

إن تحديد دوام المدارس بيوم واحد في الاسبوع يعد سابقة غريبة في تاريخ التعليم بالعراق، وتجاهل المعنيين بالأمر في وزارة الصحة، و وزارة التربية للبدائل والخيارات الممكن اتباعها لعودة الدراسة الى سابق عهدها مع الالتزام بالاجراءات الوقائية لمزيد من الاطمئنان

 

وقد بيّن لي احد المدرسين كيف أن مدير الاعدادية دعا الطلاب المتجمهرين على غرفة التسجيل لان يقفوا طابوراً واحداً مع الاحتفاظ على التباعد، وبقاء الآخرين بعيداً حتى يحين دورهم، بينما المعروف في الدوائر الحكومية التدافع المريع على غرفة هذا الموظف أو ذاك المدير دون ان يتكلم معهم أحد.

رغم كل ذلك نفتقد لمن يغيث الطالب في المدرسة والجامعة!

فمن الذي يطالب بحقه في التعليم، كما طالب صاحب المتجر، والمطعم، وحتى الكوفيشوبات! بل واصحاب مدن الألعاب؟

لا أحد يماري في أهمية التعليم في تقدم الأمم وتشييد الحضارات، وكيف أن اهتمام دول مثل اليابان والمانيا، وبلاد غربية اخرى، بل وحتى البلدان النامية مثل الصين والهند، بالتعليم من الصف الاول الابتدائي وحتى الجامعة، كان العامل الاساس في تقدم ونمو هذه البلدان وتحولها من أطلال الحرب، والحرمان والتخلف، الى قمم التطور العلمي والتقني، وباتت تحتل المراتب العليا في الدول المنتجة والمصدرة لمختلف انواع السلع.

في وضع اقتصادي مبهم، وآفاق ضبابية في العراق، يفترض ان تكون المدارس والجامعات أولى المراكز التي تفتح بعد الاطئمنان النسبي من تراجع مخاطر الوباء على الناس، لا أن تكون هدفاً سهلاً لهذا الوباء بشكل مريب وغريب، لقد أدى عشرات الآلاف من الطلبة امتحاناتهم النهائية، وبشقّ الأنفس، و”بعد التي واللُتيا” وشدّ وجذب، حتى كاد اليأس يقتل روح الطلاب نهائياً، ثم خرجوا من قاعات الامتحان ولم تسجل الدوائر الصحية أي حالة عدوى او اصابة بكورونا بين الطلبة، ولا بين الكادر التدريسي.

إن تحديد دوام المدارس بيوم واحد في الاسبوع يعد سابقة غريبة في تاريخ التعليم بالعراق، وتجاهل المعنيين بالأمر في وزارة الصحة، و وزارة التربية للبدائل والخيارات الممكن اتباعها لعودة الدراسة الى سابق عهدها مع الالتزام بالاجراءات الوقائية لمزيد من الاطمئنان، مثل تقسيم الدوام على شفيتات ثلاث؛ صباحي، وظهري، ومسائي للبنين –مثلاً- وشفتين للبنات لتمكين حضور عدد أقل من الطلاب في الغرفة الواحدة.

ولطالما حذرت جهات عدة من احتمال الاصابات خلال اجراء الامتحانات الوزارية (البكلوريا)، وكانت المساعي على قدم وساق لإلغائها واستبدالها (بالمعدل التراكمي) الذي يجمع نتائج الامتحانات الشهرية ونصف السنة وجمعها وتقسيمها لاخراج النتيجة النهائية! فتضيع جهود المجتهدين والاذكياء ويختلط الحابل بالنابل ويضيع شيء اسمه التفوق والذكاء.

إن تجاهل قطاع التعليم في العراق بهذه الطريقة البشعة يمثل أكبر خطر في آفاق مستقبل هذا البلد اكثر من أي خطر آخر تضخمه وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي من تجاذبات سياسية داخلية وخارجية، وحالات فساد، وأزمات جانبية هنا وهناك، فالتعليم يمثل العمود الفقري للنظام الاقتصادي والسياسي الناجحين في أي بلد بالعالم، حتى مكافحة الفساد الذي يتحدث عنه الجميع لن يتمّ مطلقاً إلا بوجود شريحة متعلمة بشكل صحيح وفق المعايير العلمية والمناهج الرصينة.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا