مناسبات

غَزوَةُ بَدْرِ وَعَبقَرِيَّة القِيَادَةِ الرَّسُوليَّة

جرت أحداث معركة بدر الكبرى في 17 شهر رمضان 2 ه

📌 مقدمة قيادية

القيادة؛ هي فن استخدام الامكانات في واقع الحياة، وفي المعركة والقتال، وهي فن استخدام القوات في أرض المعركة، واستخدام الأرض والسلاح وكل الظروف لتحقيق النصر على العدو، ولا يتم ذلك إلا باستخدام المبادرة والمبادهة في التكتيك المناسب في الوقت الحاسم.

فالقيادة هي علم من جهة، وفن من جهة أخرى، فإذا نظرنا إليها من جهة المعرفة بالقوات، والعدو، والأرض، والفصل، والطقس، فهي علم ومعرفة، وأما من جهة تحرك القوات وتنقلها واصطفافها ومناوراتها في أرض المعركة فهي فن عظيم لا يُجيده إلا القادة العظماء، والأفذاذ منهم.

فالقيادة هي رأس الأمر في هذه الحياة ولذا تصدَّى البارئ -سبحانه وتعالى- لبيانها، وتحديدها ولم يتركها لعبة بيد البشر لعلمه بأن البشر يعشقون ذواتهم، وكلهم يطمح للقيادة لما لها من مكانة ووجاهة، ولذا قال الشهرستاني في الملل والنحل: “ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان“، لأنها المكان والمكانة التي تتحكم بالبشر ومقدراتهم كما يحلو للإنسان المتسلط عليهم، ولذلك تجرّد رجال قريش منذ البداية للتصدي لمشروع مناهض لمشروع القيادة الرسالية التي أرادها الله سبحانه وأمر بها في كتابه وشرَّعها رسوله الكريم، صلى الله عليه وآله، في أقواله وأفعاله طيلة عمر الرسالة المبارك.

📌 غزوة بدر الكبرى

في ذاك الزمن وقبل أربعة عشر قرناً ونيِّف أُمر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يواجه طغاة قريش ليكسر شوكتهم في منطقة بعيدة عن المدينة المنورة لأكثر من 150 كيلومتر تسمى بئر بدر، وكانت البداية بظاهرة اعتراض عِير لقريش بقيادة كهف المنافقين؛ أبو سفيان، قادمة من الشام للإقتصاص من المشركين وما نهبوه من أموال المسلمين، فكانت ترتيباً ربانياً بامتياز، ولكن أظهرها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، القائد العسكري والسياسي المحنَّك، على أنها طبيعية وتسير وفق معادلات بشرية كاملة، وأما حقيقتها فهي كانت إلهية بكل ما فيها من خطط، ومعادلات، و إلى الآن بقيت مخفية على الأمة الإسلامية، وهذا واضح لمَنْ اطلع على ما كتبوه في كتب السيرة والمغازي لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.

⭐ كانت غزوة بدر ترتيباً ربانياً بامتياز، ولكن أظهرها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، القائد العسكري والسياسي المحنَّك، على أنها طبيعية وتسير وفق معادلات بشرية كاملة

فمن يقرأ الآيات الكريمة التي نزلت في أحوال غزوة بدر الكبرى يُدرك ذلك تماماً، ولكن يشتبه عليه الأمر بتصرف القيادة الرسولية بتلك الحكمة الرائعة التي أخفت الحقيقة وأظهرت الجانب البشري منها فقط لتكون قدوة وأسوة لهم في كل حروبهم ومعاركهم، وأما لو بقي الأمر الإلهي لتعلَّل الكثير من القادة بأن هذا فعل الله وليس فعل البشر، أي يكون من باب المعجزة، والحياة لا تقوم ولا تسير بالمعجزات، لأن المعجزات لإثبات النبوة، وفي مقام التحدي للبشر فقط، والحياة تسير وتقوم بأسبابها الطبيعية.

قال تعالى في أحوال الغزوة ورأي المسلمين منها:

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (سورة الأنفال: 8)

فالخروج كان بأمر من الله {أخرجك ربك}، لأجل إحقاق {الحق}، وأما الصحابة فقد كان فريق منهم {كارهون} لخروجك؛ إما جُبناً، أو لهم أسبابهم، ولكن أمر الله كان حتماً مقضيَّاً، والنصر أمامهم، ولكن سيأتي على أيديهم ظاهراً ليقويهم، ويُشجعهم، ويبث القوة في نفوسهم الخائرة، وقواهم الفاترة عن مواجهة طغاة قريش بصيتهم وسمعتهم وجبروتهم المعروف؛ {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}، فمَنْ كانوا المجرمين الكارهين يوم إذن؟

📌 جدال القيادة الرسولية

مما احتفظت به كتب التاريخ تلك المواقف التربيوية الرائعة لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يستشير أصحابه في المواقف الحرجة، لا سيما في الحروب والغزوات المصيرية ليُدرِّبهم ويُعلِّمهم ويُعطيهم فرصة لإظهار آراءهم ومواقفهم للعلن حتى يُعرف كلٌ منهم من لسانه مما في قلبه من إيمان أو غير ذلك، فلما كان المسلمون قرب بدر، وعرفوا بجمع قريش، ومجيئها، خافوا وجزعوا من ذلك؛ فاستشار النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أصحابه في الحرب، أو العودة لأن العير فاتتهم، وقريش خرجت لملاقاتهم، فقام أبو بكر، فقال: “يا رسول الله، إنها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، وما ذلت منذ عزت، ولم تخرج على هيئة الحرب“.

فأمره رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بالجلوس وأعرض عنه.

ثم قام عمر، فقال: “يَا رَسُولَ اللهِ، إنّهَا وَاَللهِ قُرَيْشٌ وَعِزّهَا، وَاَللهِ مَا ذَلّتْ مُنْذُ عَزّتْ، وَاَللهِ مَا آمَنَتْ مُنْذُ كَفَرَتْ، وَاَللهِ لَا تُسْلِمُ عِزّهَا أَبَدًا، وَلَتُقَاتِلَنك، فَاتّهِبْ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ وَأَعِدّ لِذَلِكَ عُدّتَهُ“.

فأمره النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بالجلوس، وأعرض عنه كصاحبه.

ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله، إنها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا: أن ما جئتَ به حق من عند الله، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا (شجر صلب)، وشوك الهراس لخضناه معك، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَولكنّا نقول: إذهب أنتَ وربك؛ فقاتلا، إنا معكم مقاتلون، والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك، ومن بين يديك، ولو خضت بحراً لخضناه معك، ولو ذهبت بنا برك الغماد لتبعناك“.

⭐ القيادة الحكيمة هي التي تعتمد على الله في المقام الأول وليس على عناصرها، ثم تُعلمهم كيف يُعيرون جماجمهم إلى الله

فأشرق وجه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا له، وسُرَّ لذلك، وضحك كما يذكره المؤرخون، لأنه موقف مشرِّف كان ينتظره الرسول القائد في ذلك الحين، لأنه على رأس جيش بسيط بعدد (313)، معهما فرسان فقط، وسبعين جملاً يتعاقبون عليها، وسلاحهم السيوف وبعضهم لم يكن معهم السيوف بل جريد النَّخل، ولكن الله سبحانه أراد لهذا الجيش أن يكون مثالاً وقدوة إذا أطاع قيادته ولم يخذلها، وأظهر الإيمان بالله ورسوله وليس بجبنه وخوفه من قريش وخيلاءها وبأوها وطغاتها، لأن الله غالب على أمره وهو المقاتل وليس أنت حيث قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (سورة الأنفال: 17)

و أكمل المشهد الاستشاري؛ الأنصاري سعد بن معاذ، فأجاد وأحسن حيث قال: “إنّك عَسَى أَنْ تَكُونَ خَرَجْت عَنْ أَمْرٍ قَدْ أُوحِيَ إلَيْك فِي غَيْرِهِ، وَإِنّا قَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك، وَشَهِدْنَا أَنّ كُلّ مَا جِئْت بِهِ حَقّ، وَأَعْطَيْنَاك مَوَاثِيقَنَا وَعُهُودَنَا عَلَى السّمْعِ والطاعة، فامض يا نبىّ الله، فو الذي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا بَقِيَ مِنّا رَجُلٌ، وَصِلْ مَنْ شِئْت، وَاقْطَعْ مَنْ شِئْت، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْت، وَمَا أَخَذْت مِنْ أَمْوَالِنَا أَحَبّ إلَيْنَا مِمّا تَرَكْت“.

📌 بناء الحضارة الإنسانية

هكذا يجب أن تكون طاعة القيادة الربانية في المعارك الحضارية، التي يُريد منها الله سبحانه أن يُصلح الفاسد ويُحق الحق ويدحض الباطل، ولذا أنزل الله سبحانه وهيَّأ لذلك الجيش البسيط كل أسباب النصر، ولعدوهم كل أسباب الهزيمة والعار والخزي، لأنه أراد لهذه المعركة أن تكون الأساس الذي تعمَّر عليها الحضارة الإنسانية في هذه الحياة، والتي انطلقت في يوم بدر على يدي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وستُختم على يدي حفيده وباني دولة الحق والعدل والحرية والرفاه في آخر الزمان؛ الإمام الحجة بن الحسن المهدي، عجل الله فرجه الشريف، وبنفس العدد وإن اختلفت العدَّة، فالروايات الشريفة تؤكد أن عدد أصحابه بعدد رجال بدر الكبرى (313)، ولكنَّهم سيكونوا جميعاً كالمقداد بن الأسود الكندي، وسعد بن معاذ بالصلابة والطاعة.

📌 النصر من عند الله

فالقيادة الحكيمة هي التي تعتمد على الله في المقام الأول وليس على عناصرها، ثم تُعلمهم كيف يُعيرون جماجمهم إلى الله كما كان يوصي أمير المؤمنين في حروبه، ليعلم الجميع أن النصر من عند الله، والتوفيق محالف الصابر الصادق في إيمانه وولائه لقيادة الربانية في معركته الحضارية.

فمسألة القيادة في معركة بدر الكبرى هي مسألة حساسة لم يلتفت إليها أغلب العلماء والباحثين بل أظهروها على أنها قيادة بشرية متزلزلة -والعياذ بالله- تخاف فتجلس في العريش للبكاء والدعاء ويحرسه صناديد قريش -كما يروون- والحرب قائمة على ساق تقطع الرؤوس، وتطيح الأيدي والأرجل، وأعظم ملائكة الله يشتركون فيها، جبرائيل وميكائل وإسرافيل (ع) وثلاثة آلاف معهم، فكيف استطاعوا تصوير القيادة بتلك الصورة التي لا تمتُّ إلى الواقع بصلة أبداً.

وهذا بطل بدر الكبرى الذي لا يستطيع أحد أن يُنكر فعاله فيها، لأنه قتل نصف القتلى من كبار طغاة قريش؛ أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، عليه السلام،  يقول: “لقد رأيتُنا يَومَ بدرٍ ونحنُ نَلوذُ برسولِ اللهِ، صلَّى اللهُ عليه وآله، وهو أقرَبُنا إلى العدُوِّ وكان من أشَدِّ الناسِ يومَئِذٍ بأسًا“، ومرة أخرى يقول: “كنَّا إذا احْمَرَّ البأسُ، ولقيَ القومُ القومَ، اتَّقَينا برسولِ اللَّهِ، صلَّى اللَّهُ عليهِ وآله، فما يَكونُ منَّا أحدٌ أدنا مِنَ القومِ منهُ“. (الروايتان صحيحتان عند القوم) نعم هذه هي الصورة الحقيقية والحضارية للقيادة الرسولية المباركة والإلهية المسددة من السماء وليس ما يُصورونه من خوف وبكاء ووجل وذعر من حثالة قريش وطغاتها، ولكن أرادوا أن يُظهروا رجال قريش وقيادتها، على حساب القيادة الرسولية الراقية والرائعة جداً ولكن كلمات أمير المؤمنين، وأهل البيت، عليهم السلام، هي التي رسمت للأمة تلك الصورة الناصعة للقيادة الرسولية في المعارك الحضارية.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا