مناسبات

شهر رجب الأصب

لمّا كان الإنسان عين الفقر والفاقة وبما أنه فُطر على أساس الطلب والحاجة إلى خالقه، فهو قد فُطر على الدعاء؛ فالدعاء هو الالتجاء إلى …

لمّا كان الإنسان عين الفقر والفاقة وبما أنه فُطر على أساس الطلب والحاجة إلى خالقه، فهو قد فُطر على الدعاء؛ فالدعاء هو الالتجاء إلى الله -تعالى- وطلب سدّ النقائص وقضاء الحاجات منه.

وفي الواقع أن هذه الحالة من التوجّه إلى الله واستمداد العون منه من خلال الدعاء غير مختصّة بالمؤمنين فقط، بل حتى المشرك لا يخلو البتّة من هذه الحالة، و إن أنكرها في حياته، فهو يلجأ اليها عندما يقع في شدّة، وتتقطّع به الأسباب، عندها تتعلّق آماله به بصاحب القدرة اللامتناهية -سبحانه تعالى- وهذا ما أشارت إليه الآية الشريفة: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. (سورة يونس، الآية:22)

فعندما يوشك هؤلاء على الغرق والهلاك يتوجّهون بدافع الفطرة، الى الدعاء لله –تعالى- الذي بيده كل شيء، ويطلبون منه النجاة.

هنا يأتي السؤال:

 

  • هل الدعاء سلاحٌ أم وسيلة؟

الدعاء؛ هو سلاح المؤمن، والذي يجب أن لا يفارقه أبداً، وبنفس الوقت هو الوسيلة الذي تجعل الانسان يرتبط بالله، ويدعو ربه، فإن الله تبارك وتعالى يغفر ذنوب من يدعوه ولكن يجب أن يكون قلبه لله .

فمنشأ الدعاء لدى الإنسان هو ضعفه واحتياجه الدائمان اللذان لا ينفكان عنه. وبمقدار ما يلتفت الإنسان إلى ضعفه ونقصه وحاجته، يندفع إلى الدعاء مستمدّاً العون والقدرة من مالكها المطلق، وهو الله، تقدست أسماؤه، وما لم يلتفت الإنسان إلى عجزه وضعفه وضعف سائر المخلوقات من حوله، لن يعلّق آماله على ربّ الأرباب، ولن يقصر طلب حاجاته عليه، فالاعتراف بالعجز مقدمة أساسية للدعاء.

والدعاء واحدٌ من أجمل وأرقى التعابير عن العلاقة بين العبد ومولاه -عزّ وجلّ- فعندما يدعو الإنسان ربّه فهو يعبّر عن عبوديّته له، ويعلن الخضوع أمامه، والتسليم لقدرته.

عن الإمام الصادق، عليه السلام: “الدعاء استجابة الكل منك للحق، وتذويب المهجة في مشاهدة الرب، وترك الاختيار جميعاً وتسليم الأمور كلها ظاهراً وباطناً إلى الله تعالى”. لذا جعل الله –تعالى- الدعاء عبادةً ووسيلةً شريفةً للاتصال والارتباط به، كما أخبر بذلك إمامنا الصادق، عليه السلام، حيث قال: “أدعُ ولا تقل قد فرغ من الأمر، فإن الدعاء هو العبادة، إن الله -عز وجل- يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.‏ بل ومن أفضل العبادات أيضاً، فقد سُئل الإمام الباقر، عليه السلام: “أي العبادة أفضل؟ قال: ما من شيء أفضل عند الله -عز وجل- من أن يُسأل ويُطلب مما عنده، وما أحد أبغض إلى الله -عز وجل- ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده”.

 

  • سلاح الانبياء

وطالما أن الإنسان في هذه الدنيا فإنه لا يخلو من حالة نقصٍ وعَوزٍ يحتاج معها إلى استمداد العون من الله –تعالى-، وهنا لا يملك إلا الدعاء الذي فيه مفاتيح الفلاح وقضاء الحاجات المعنوية والمادية على حدٍّ سواء. فهو سلاح الأنبياء الذي أنجاهم من الأعداء، ويغسل الذنوب ويورث الطمأنينة والسكينة، ويدفع البلاء ويدرّ الأرزاق، وفيه الشفاء من كل داء .

عن الإمام الرضا، عليه السلام قال: “عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: الدعاء”. وعن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: “ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى، قال: تدعون ربكم بالليل والنهار، فإن سلاح المؤمن الدعاء”. وعن الإمام الرضا، عليه السلام: “الدعاء يدفع البلاء النازل وما لم ينزل”.

والمولى عزّ وجلّ يريد من عباده أن يدعوه وأن يتعلّقوا به وحده ويجعلوا رجاءهم عنده ويقصروا آمالهم عليه، وذلك لما للدعاء من تأثيرٍ بالغ في تعميق علاقة العبد بمولاه وتشديدٍ لعرى الإيمان به تعالى.

إن التجربة المعنوية التي يختبرها الإنسان خلال دعائه الصادق، ولاحقاً حين ينال الإستجابة، تجعله أكثر ثقةً بالله، وأشد تعلّقاً به. والمولى -عزّ وجلّ- أقرب إلى عباده من حبل الوريد، لا يحول بينه وبين عبده حائل، ولا يحتاج الإنسان إلى واسطة توصل صوته ونداءه وسؤاله إليه –تعالى-. فحتى لو أضمر الإنسان سؤاله في قلبه فإنه -جلّ جلاله- عليمٌ به، وقد وعد عباده بإجابة دعواتهم، فقال في كتابه العزيز: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.

وهذا يعني أنه وعد بالإجابة بشكلٍ مطلق طالما أن الداعي يدعوه حقيقةً، وطالما أن لسانه ينطق بما في قلبه، عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم: “من فُتح له باب في الدعاء فُتحت له أبواب الإجابة.” فما أعظمها من بشرى تنطق بها الآية الكريمة، وأحاديث الرسول الكريم، حيث إن من يُعطى الدعاء فقد أُعطي الإجابة حتماً. والدعاء هو الوسيلة التي تربط العبد بربه حين يدعو ربه.

 

  • رجب الأصب، كيف نُكرمُه؟

وها نحن نمر في شهر رجب الذي يستجاب فيه الدعاء، لانه شهرٌ عظيم، ومن الشهور العظيمة والمُكرمة، لانه من الاشهر الحرم، وقد روي عن المعصومين، عليهم السلام، عدة صفات لهذا الشهر الفضيل منها؛ الأصب، فهو يصب الخيرات والبركات والغفران على العباد، وايضاً؛ الأصمّ، لان “لا قتال فيه”، كما جاء في حديث لسماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي.

وجاء عن رسول الله، صلّى الله عليه وآله، في فضل شهر رجب: “ألاَ إنّ رجب شهر الله الأصمّ، وهو شهر عظيم؛ وإنّما سُمّي الأصمَّ لأنّه لا يقارنه شهر من الشهور حرمةً وفضلاً عند الله تبارك وتعالى”، وكان أهلُ الجاهليّة يعظّمونه في جاهليتهم، فلمّا جاء الإسلام لم يَزدَد إلاّ تعظيماً وفضلاً، ففي كل ليلة من ليالي شهر رجب على الانسان ان يدعو ربه، لان ليالي شهر رجب، ليالٍ عظيمة جداً. وعن الإمام علي، عليه السلام قال: “رجبٌ نهرٌ في الجنّة، أشدُّ بَياضاً من اللبن وأحلى من العسل، مَن صام يوماً من رجب سقاهُ اللهُ عزّوجلّ من ذلك النهر”.

علينا ان ندعو الله -تبارك وتعالى- وخصوصا في هذا الشهر الفضيل، والاستفادة من فرصة التقرّب الى الله –تعالى- بالعبادات والاعمال الصالحة التي يكون لها ثواب عظيم، كما هو الحال في سائر الأشهر الحرم، و من أظهرِ الدلائل على تعظيم هذا الشهر الحرام؛ الابتعاد عن ظلمِ الإنسان نفسه؛ باجتراح الذنوبِ والسيئاتِ، ومقارفةِ الآثامِ والخطيئات؛ ذلك لأنّ الذنبَ في كلِّ زمانٍ، شرٌّ وشؤمٌ على صاحبِه؛ لأنّه يعد تجرؤاً على اللهِ -جلَّ جلاله- لكنّه في الشهرِ الحرامِ يكون أشدَّ سوءاً، وأعظمَ شؤماً؛ لأنّه يجمعُ بين الاجتراءِ على الله تعالى، والاستخفافِ بما عظّمه -جلّ وعلا-.

وإذا كان تعظيمُ الشهرِ الحرامِ أمراً متوارثاً لدى أهلِ الجاهليّةِ قبلَ الإسلام؛ يكفُّون فيه عن سفكِ الدمِ الحرامِ، وعن الأخذِ بالثأر والانتقامِ؛ أ ليس من ينتسبُ إلى الإسلامِ أجدرَ وأحرى بهذا الالتزامِ؟

عن المؤلف

اترك تعليقا