مناسبات

الامام علي (ع) ودور المجتمع في الدولة الرشيدة

الجميع متفقون على أن دولة الامام علي، عليه السلام، تجسيد الانسانية والحق وكل القيم والمبادئ السامية التي لا يختلف عليها ذو فطرة سليمة وعقل سوي، بيد ان الاختلاف في …

الجميع متفقون على أن دولة الامام علي، عليه السلام، تجسيد الانسانية والحق وكل القيم والمبادئ السامية التي لا يختلف عليها ذو فطرة سليمة وعقل سوي، بيد ان الاختلاف في طريقة الاستفادة من هذه التجربة وايجاد المصاديق العملية لها في الوقت الحاضر، فالناس يتمنون ظهور هكذا دولة تحقق لهم العدالة والمساواة والحرية والكرامة الانسانية، فيما نلاحظ التخوف في جانب اهل السلطة والحكم في بلادنا من أن تهدد تجربة الامام علي، مصالحهم كما فعلت بأشباههم في ذلك العهد، فلا يجرؤ أحد على فتح ملف هذه الدولة وسط الاجواء السياسية التي نعيشها، فهم يعدونها ضرباً من «المثالية» او تجربة تاريخية خاصة لظروف زمانية ومكانية خاصة ايضاً. فهل معنى هذا، أن علينا النظر الى تجربة الامام علي، كتحفة فنية جميلة لا صلة لها بالواقع الذي نعيشه؟

للدولة العادلة ثمن

ان الدولة التي لا ظلم فيها ولا فساد اداري ولا تضليل ولا تغرير، ليست عبارة عن هدية تقدم إلى الناس على طبق من ذهب، او يبدأون صباحهم على وجود مؤسسات ادارية او قضائية او أمنية نزيهة وعادلة، كما كان يحصل في بلاغ الانقلابات العسكرية في بلادنا، حيث يسمع الناس عبر الراديو، ان حكومتهم او حتى نظام حكمهم اصبح من الماضي، وعليهم ان يستعدوا لمواكبة نظام حكم جديد، بزعيم ومؤسسات جديدة.
وعندما نتداول الحديث عن العلاقة التكاملية بين المجتمع والدولة في تحقيق الرشد الحقيقي لهذه الدولة، إنما نستذكر المعادلة التي أرساها أمير المؤمنين، عليه السلام، لدى توليه الحكم، فقد وضع حداً لحالة القطيعة بين الوعي والارادة الجماهيرية، وبين تحقيق «الرشدية» في الدولة، وليس أدل على الفترة التي سبقته، حيث كان الوعي والارادة في إجازة، فعاث الحكام في بلاد الاسلام فساداً، بل ونخروا في كيان الاسلام، وكادوا ان يضيعوا معالم الدين والقيم التي جاء بها النبي الأكرم وضحى من اجلها مع ثلة من اصحابه، وذلك بتحويل الحكم الاسلامي الى سلطنة وملك عضوض واستئثار بالاموال والامتيازات.
لذا نجد الامام، عليه السلام، ينبه الناس الذين تدافعوا على بيعته، بالحقيقة: «ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المُثلات، حجزته التقوى عن تقحم الشبهات، ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيكم، صلى الله عليه وآله، والذي بعثه بالحق لتبلبلنّ بلبلة، ولتغربلن غربلة ولتسلطنّ سوط القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرن سابقون كانوا سبقوا».
فمن الذي يستفيد من الرشوة والمحاباة للحصول على الوظيفة والامتيازات المادية بالدرجة الاولى؟ انهم اصحاب المصالح والمطامع، والذين «لما يثبت الايمان في قلوبهم»، فالخير الذي يبحث عنه الجميع، ينبع من الجميع، ولا يأتي من الفضاء الخارجي! فاذا كانوا مسؤولين عن النجاح الذي يحرزونه، فهم مسؤولون ايضاً وبأجمعهم عن الفشل الذي يقعون فيه، وهذا تحديداً الدرس الاول الذي يعطيه الامام، عليه السلام، لأبناء مجتمعه آنذاك، وللاجيال القادمة، «…اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم».
واذا نقرأ عن مطالبته المشددة لولاته في الامصار، بالعدل وإنصاف الناس والامانة والصدق، فانها رسالة واضحة إلى الناس بان يواكبوا مسيرة الحق ويساعدوا في إشاعة قيم الدين والاخلاق في المجتمع، فقد كان رد فعل الامام، عليه السلام، على ذلك الحاكم بسبب جلوسه على مائدة مشحونة بالاطعمة والأشربة بما يفتقر اليه سائر الناس، إنما كانت بسبب عمل قام به احد افراد المجتمع، بمحاولة استمالته والحصول على الحظوة في الجهاز الحاكم.
من هنا نجد التفاتة الإمام، عليه السلام، نحو الغالبية العظمى القادرة على صنع التغيير والتأثير على القرار، فيشدد على الانتباه اليها ومراعاتها، ففي مطلع رسالته الشهيرة إلى صاحبه المقرّب، مالك الأشتر النخعي، حين ولاه مصر، «.. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً عند العطاء، وأبطأ عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة». وربما يكون ذلك الذي بسط المائدة أمام والي (محافظ) الامام، عليه السلام، في البصرة، من أبرز وجوه الخاصة في مجتمع ذلك الزمان.
حتى فيما يتعلق بتطبيق القوانين والاجراءات الحكومية التي هي من الامور الروتينية، كما نراها اليوم، فان سلامة التطبيق رهين بتفاعل هذا المجتمع وتجاوبه، علماً أن المثل الذي نورده يعود إلى عهد الامام، عليه السلام، حيث كل ما يصدر إلى الناس إنما هو قانون مستقى من السماء وصادر عن انسان معصوم، مع ذلك يوصي جباة الزكاة في الكوفة بان «يا عبد الله انطلق وعليك بتقوى الله وحده لا شريك له، ولا تؤثرن دنياك على آخرتك، وكن حافظاً لما ائتمنتك عليه راعياً لحق الله فيه حتى تأتي نادي بني فلان فإذا قدمت فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بسكينة ووقار حتى تقوم بينهم وتسلم عليهم، ثم قل لهم: يا عباد الله أرسلني إليكم ولي الله لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدونه إلى وليه؟ فإن قال لك قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلا خيراً..» والحديث الذي يرويه الشيخ الكليني، طويل يتضمن دروساً في العلاقة التكاملية بين المسؤول والمواطن في جميع بقاع العالم الاسلامي.

إصلاح النفوس أولاً

وفي مقابل النظرة السلبية للمجتمع، ثمة رؤية ايجابية بامكانية تكرار تجربة الامام علي، بشرط توفر مواصفات خاصة، وفي كتابه «السبيل الى انهاض المسلمين»، يشير المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره – الى عظمة الامام علي ،عليه السلام، وتجربته الرائدة عندما يفند مقولة البعض بان هذه السياسة لن تدفع الناس للالتزام بالقوانين وما تطالب به الدولة، فان «إيمانهم هو الذي يبعثهم على إعطاء المال كما نشاهد الآن بعض الناس يعطون أموالهم لمراجع التقليد لان إيمانهم يبعثهم على ذلك، بدون جبر ولا إكراه».
وهذا بحاجة إلى ارضية نفسية لدى الانسان، الفرد والمجتمع، بحيث من الطهارة والنقاء والسمو ما تؤهلها لتلقي الخير الحق ونبذ الشر والباطل، وهو ما كان يسعى اليه الامام ، عليه السلام، في خطبه المعروفة في «نهج البلاغة» واحاديثه الجانبية مع اصحابه وعامة الناس، بمطالبتهم بتقوى الله والتزام القيم الاخلاقية والانسانية، لأن «لا يحمل الناس على الحق، إلا من ورعهم عن الباطل».
إن مهمة إصلاح النفوس وإعدادها للإسهام في إنجاح تجربة الحكم الرشيد او النظام الديمقراطي في اصطلاح اليوم، ليست بالعملية السهلة، وقد واجه الامام علي، فشل واخفاق أهل الكوفة في هذا المضمار رغم ولائهم الظاهري وحبهم له، وهم انفسهم الذين تدافعوا لمبايعته خليفة للمسلمين، فكما أن النخبة السياسية وحتى الثقافية ايضاً تخشى – عادة – من التغيير العميق والشامل خوفاً على مكاسبها وامتيازاتها، فان الناس ايضاً يحملون نفس المشاعر، وربما يكونون أكثر، كونهم لا يحملون من الوعي والادراك سوى تأثير المال في الحياة، وهذا ما نقرأه من التاريخ في عهد الامام، وما نشهده اليوم، فالتاريخ يعيد نفسه، في كثير من الحالات، ولذا نجده، عليه السلام، يبين لنا بأن «في العدل سعة، وما ضاق عليه العدل فان الجور عليه أضيق»، ليكشف مسألة منطقية وفطرية، فالعدل الذي هو مبعث الخير والحياة الكريمة وكل ما يصدر منه من تكافؤ الفرص وتوزيع الثروة وإعطاء كل ذي حق حقه، وكل هذه المواصفات الجميلة، مع ذلك يعجز الانسان عن استيعابها والتفاعل معها، فهل يتمكن من التفاعل مع الجور وما يجسده من فقر وبطالة ومحسوبية وتمييز؟
وإذن؛ فان الامام علياً، عليه السلام، يعطي جماهير الشعب دوراً محورياً في نجاح تجربة الحكم ويحثهم لأن «أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد»، لأنكم «لا تقدرون على ذلك»، ولعل هذه تمثل قمة النظرة الواقعية الى الانسان، كونه انساناً يحمل الغرائر والنزعات وايضاً بواعث الخير، تبقى عملية التفعيل والتنمية ليكون على استعداد لخوض التجربة بنجاح.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا