في شهر رمضان المبارك يتألق حدثان هامان؛ الأول: ليلة القدر التي أُنزل فيها القرآن، والثاني: استشهاد أمير المؤمنين، عليه السلام، في إحدى الليالي التي يُرجى أن تكون ليلة القدر.
فما العلاقة العقيدية والتاريخية بين الإمام علي، و القرآن الكريم؟
بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله، تفرد الإمام علي، عليه السلام، دون غيره بعلاقة متميزة ومتقدمة بالقرآن المجيد. فقد كان في صحبة رسول الله، صلى الله عليه وآله، في أول نزول للوحي عليه في غار حراء، وبحق هذا الإمام العظيم نزلت عشرات الآيات تمجيداً لمواقفه وتبياناً لفضله وإيضاحاً بضرورة موالاته وطاعته.
جاء في الحديث الشريف: «علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض»، وهو حديث ثابت عند الشيعة، وقد أخرجه عدد من علماء أهل السنة ومنهم؛ الطبراني في الأوسط، وهو حديث يؤكد أن علياً هو الناطق والمجسد للقرآن الكريم.
وجاء في رواية عنه، صلى الله عليه وآله: «إنَّ مِنْكُم من يُقَاتِلُ على تأويلِ القرآنِ، كما قاتلتُ على تنزيلِه»، فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟، قال: لا، فقال عمر: أنا هو يا رسول الله؟، فقال: لا، ولكنَّهُ خاصفُ النعْلِ في الحُجْرَةِ، يعني عليَّ بن أبي طالب». وقد روى هذا الحديث جمهرة من علماء أهل السنة ومنهم الإمام أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك.
ولعل أدق وأعلى توصيف في علم الإمام علي، وإحاطته بالقرآن هو قول الله تعالى بحقه: {قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (سورة ابراهيم، الآية٤٣)، فالآية تتحدث عن أن هناك شاهدين على كون النبي محمد، صلى الله عليه وآله، من المرسلين وهما: الله تبارك وتعالى، ومن يملك علم الكتاب، أي علم شامل غزير بالكتاب الإلهي، وفي الروايات من الفريقين أن ذلك الشاهد هو الإمام علي، عليه السلام، وممن ذكر ذلك؛ الثعلبي في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور، وهذه أعلى مرتبة خلدها القرآن بشأن علم الإمام علي، عليه السلام.
وقد حاول عدد من علماء أهل السنة أن يبعدوا هذه الفضيلة العظمى عن الإمام علي بالقول: إن الشاهد هم علماء أهل الكتاب وقال بعضهم إنه عبدالله بن سلام، وكل ذلك حسداً من عند أنفسهم، والإمام علي، عليه السلام، هو المتعين بالذات فقط دون غيره للأحاديث النبوية السابقة وغيرها، ولِما ذكره المؤرخون والمحدثون عن سعة علمه القرآني الذي يُستدل عليه من خطبه وتراثه، وكذلك من رجوع جميع الناس له دون أن يرجع إلى أحد.
علي مع القرآن
وهنا أضع بين يدي القراء الكرام خطبة رائعة للإمام علي عن القرآن، وهي مقطع في الخطبة ١٩٨ من نهج البلاغة، وكل جملة من هذه الخطبة تحتوي أسفاراً من علم الإمام عن كتاب الله، وسأقوم بتقسيم هذا المقطع المبارك من خطبة الإمام عن القرآن إلى ثلاثة أقسام مع إستفادات تأملية:
القسم الأول: عظمة القرآن الكريم
«ثمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، وَسِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ، وَبَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ، وَمِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ، وَشُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْؤُهُ، وَفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وَبُنْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَشِفَاءً لاَ تُخْشَى أَسْقَامُهُ، وَعِزّاً لاَ تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ ، وَحَقّاً لاَ تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ».
نستفيد من قول الإمام، التالي:
١- القرآن نور علم وهداية مستمرة لكل الأجيال.
٢- سراج دائم يرشد الباحثين عن الحق في كل عصر.
٣- عميق في معانيه وأبعاده، ولا يمكن الوصول لكل أعماقه إلا للراسخين في العلم.
٤- أنه المنهاج الصالح والناجح للحياة.
٥- إن مَنْ يستضيء بنوره وعلمه لا يدخل في أية ظلمة.
٦- أنه يفرق بين الحق والباطل ومن يفهم آياته يتسلح ببراهين مؤكدة لا يمكن إبطالها.
٧- إنه منظومة متكاملة للتقدم الصحيح للمجتمعات وبنائها بناء قوياً لا يمكن أن يخترق أو يضعف أمام أي خطر وحرب.
٨- باتباعه يكون المسلم في حماية تامة من الأمراض النفسية، وحتى الجسدية التي لو وقعت فلا يخشى من مخاطرها.
٩- إن أنصار الدين في عز دائم، فلهم الغلبة بالحجة وكذا في مختلف الحروب النفسية والقتالية والإعلامية والفكرية.
١٠- إن العاملين بالقرآن الكريم على صراط الحق المنتصر دوماً.
القسم الثاني: معطيات القرآن الكريم
يقول الإمام علي، عليه السلام، عن القرآن:
*فَهُوَ مَعْدِنُ الإِيمَانِ وَبُحْبُوحَتُهُ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَبُحُورُهُ، وَرِيَاضُ الْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ، وَأَثَافِيُّ الإِسْلاَمِ وَبُنْيَانُهُ، وَأَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَغِيطَانُهُ. وَبَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ، وَعُيُونٌ لاَ يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ، وَمَنَاهِلُ لاَ يُغِيضُهَا الْوَارِدُونَ، وَمَنَازِلُ لاَ يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ، وَأَعْلاَمٌ لاَ يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ، وَآكَامٌ لاَ يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ».
ويتابع الإمام وصفه لكتاب الله العظيم، ونستفيد من كلامه:
١- من أراد أصل الإيمان وتأثيراته الإيجابية فعليه بالقرآن فهماً وتيقناً.
٢-ومن أراد أصول العلم وسعته، فعليه بالقرآن تأملاً فيه وعملاً به.
٣- ومن أراد العدل في حياته الخاصة وفي الحياة العامة فعليه بإتباع توجيهات القرآن.
٤- القرآن يمثل أصل الإسلام ومبادئه الأساسية، كما هو أساس لشرعية كل بناء الإسلام العام.
٥- كما يفصل القرآن كل نواحي الحق.
٦- والقرآن خزينة من الفوائد المتجددة العامة والخاصة التي لا تنتهي مهما استخرج منه العلماء والمفكرون.
٧- وفي القرآن مناهج وعلامات هداية متعددة الأبعاد لكل من قصده وأراد استخراج لآلئ النور الإلهي منه.
القسم الثالث: بركات القرآن الكريم
«جَعَلَهُ اللهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ، وَحَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ، وَمَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ، وَعِزّاً لِمَنْ تَوَلاَّهُ، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَهُدىً لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ، وَعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَفَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ، وَحَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ، وَمَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَجُنَّةً لِمَنِ اسْتَلْأَمَ، وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى، وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى، وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى».
وفي هذا القسم يتحدث الإمام أن للقرآن بركات ومواهب متنوعة ومنها:
١- يقدم زاداً معرفياً لكل أبحاث العلماء المتعطشين للعلوم.
٢- ويكشف للفقهاء الكثير من الأحكام وعللها بما يجعله ربيع علم يستشعرون كماله وجماله.
٣- يقدم الطرق السليمة لبناء النفس على الصلاح.
٤- يقدم حلولاً وإنارات لكل المعضلات الفردية والعامة.
٥- والذين يتمسكون به فإنه يمنحهم قوة وعزاً ومناعة لا تنهار.
٦- يمنح العاملين به حالة السلم والطمأنينة النفسية والمجتمعية.
٧- كما يمنح الباحثين عن الحق، الهدى الأكمل، وعلامات النجاة عند الأزمات.
٨- ولأنه الحق؛ فهو البرهان والمقياس الذي يرجع له وشاهداً مُعيناً وناصراً عند من يريد أن يحج غيره بالحق ويكون النصر له.
٩- وهو خير ما يُحمل من علم وهداية في القلوب تأخذ العاملين به إلى مواقع متقدمة.
١٠- ولأنه يحتوي على سنن وقوانين الحياة، فهو يكشف لأصحاب الفراسة مآلات الأمور.
١١- وهو الحامي والدرع الأمنع لمن أراد أن يكون في مأمن من مخاطر الدنيا والآخرة.
١٢- وكله علم للواعين، وأحكم الأقوال، وأشدها تأثيراً في الأحاديث والمواعظ، وهو يحتوي على أحكام تكشف الحق لدى القضاة للفصل بين المتخاصمين.
إذا عرفنا المقام العلمي والمعرفي الكبير للإمام علي، عليه السلام، وموقعه العالي في منظومة الخلق العامة، وكونه إمام المتقين والمقربين، نعرف حينها أن القرآن قد غمر قلب الإمام ولاصق عقله وحركته فلا غرو إذن أن يعرف فضائله وتأثيراته ومعانيه كما أوضحها في هذه الخطبة.
هذا هو القرآن كما يصفه أمير المؤمنين، العالم بالقرآن؛ بحور من علم، ونور، وهداية الله، فهلّا أقبلنا عليه وارتبطنا به تأملاً وتلاوة وعملاً، وكنا بذلك من المحظوظين بهذه المعجزة التي بين أيدينا فيكون خير شفيع لنا، وإلا نكون ممن يشكوهم الرسول بهجرانه والتقصير نحوه، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}.