مناسبات

ولد الهدى وعمَّ الخير والندى

  • مقدمة

في ربيع السنة تحتفل الأرض به حيث تلبس ثوبها الأخضر، وترصعه الأزهار من كل لون وشكل، وينتشر العبق ليعم الأرجاء كلها، فما لك إلا أن تسبِّح الخالق العظيم على هذه النِّعم الكثيرة، والتي لا تعدُّ ولا تحصى، فتبارك الخلاق العظيم.

📌إنه النور الأول الذي خلقه الله من نور ذاته، ليكون مثاله في خلقته، وحجته على بريته، ورسوله إلى البشر جميعاً فيُكمل به الله ـ سبحانه وتعالى ـ الخير والفضل والنِّعمة على خلقه بوجوده المبارك

وفي ربيع الأول يحتفل الكون كله بولادة الهدى وبزوغ نور الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله، من مكة المكرمة، فكانت ولادته المباركة عهد جديد لهذه الحياة برمتها لأنه زادها خيراً وفضلاً وجمالاً، وتألقاً وكمالاً، ألا يحق لنا – ونحن ننتمي ونتشرف بالإنتساب إليه – أن نحتفل بمولده الذي عطَّر الكون بشذاه، وأمطر الأرض بنداه، ونشر عليها هداه؟

  • النور الأول

نعم؛ إنه النور الأول الذي خلقه الله من نور ذاته، ليكون مثاله في خلقته، وحجته على بريته، ورسوله إلى البشر جميعاً فيُكمل به الله ـ سبحانه وتعالى ـ الخير والفضل والنِّعمة على خلقه بوجوده المبارك، ولولاه لما خلق الله الخلق، ولا بسط لهم الرزق، ولا رفع السماء، ولا كبس الأرض على الماء، ولا فتق الأجواء، ولا أجرى الماء وحرك الهواء، أ لم يخاطبه الباري في حديثه القدسي: “لَوْلاَكَ لَمَا خَلَقْتُ اَلْأَفْلاَكَ، وَلَوْلاَكَ لَمَا خَلَقْتُ اَلْكَوْنَيْنِ”، وفي حديث قدسي آخر: “يَا أَحمَد؛ لَولَاكَ مَا خَلَقتُ الأَفلَاكَ، وَلَولَا عَليٌّ لَمَا خَلَقتُكَ، وَلَولَا فَاطِمَة لَمَا خَلقتُكُمَا”، وفي حديث قدسي أكمل وأحمل يقول الباري لسيد خلقه: “لَوْلاَكَ مَا خَلَقْتُ اَلْأَفْلاَكَ، وَلاَ اَلدُّنْيَا، وَلاَ اَلْأَرْضَ، فَمَنْ أَحَبَّكَ أَحْبَبْتُهُ، وَمَنْ أَبْغَضَكَ أَبْغَضْتُهُ”.

فعِلَّة الخلق والإيجاد، والسبب الوجود هذا الموجود المبارك، وهذا النور الأزهر، والموجود الأطهر للرسول الأكرم، والنبي الخاتم المعظم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله، الذي شرَّف الله به الوجود، وأناره، وشرَّفه وزانه، وطهَّره برسالته وكتابه الذي أنزله الله عليه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم صراط العزيز الحكيم.

  • من بركات المولد الشريف

 التاريخ يحدثنا العجب العجاب في صفحاته السوداء التي بيضتها السيرة العطرة للرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، الذي ولد في قلب الصحراء العربية، وفي سرَّة الكرة الأرضية، حيث البيت الحرام والركن والمقام وزمزم والبلد الحرام، في عصر كانوا يصفونه بالجاهلية حيث عمَّ الظلام وإدلهمَّ، وحلك الزمان وأظلم، فكانت العرب تعيش في حالة من البؤس، والجهل، والتخلف العجيب، من كل النواحي الاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، والثقافية، والدينية، ولم يكن رائجاً عندها إلا الشعر وقصائده، ومعلقاته، وأسواقه، التي تعقد على ضفاف أسواق قريش في رحلتي الشتاء والصيف التي سنَّها لهم سيدهم هاشم، فكانت شرفهم وفخرهم في العرب حيث جعلهم قبلة التجارة بعد أن كانوا قبلة العبادة والحج.

وأما ما تتسم به الحياة العربية في تلك العصور المظلمة فقد تحدثت عنها سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليها السلام، في خطبتها الفدكية حيث قالت: “كُنْتُمْ عَلىٰ شَفٰا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّٰارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهٰا، مَذْقَةَ اَلشَّارِبِ، وَ(نُهزَةَ) لَهْزَةَ اَلطَّامِعِ، قَبْسَةَ اَلْعَجْلاَنِ، وَمُوَطَّأَةَ اَلْأَقْدَامِ، تَشْرَبُونَ اَلطِّرَّاقَ، وَتَقْتَاتُونَ اَلْقِدَّ وَالوَرَقَ، أَذِلَّةً خَاشِعِينَ تَخٰافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنّٰاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ”، فكانوا يعيشون حياة في غاية البؤس، منتشرين في صحرائهم المترامية الأطراف، متنقلين بين كثبانها ورمالها، باحثين عن الماء والمرعى لدوابهم، خائفين من بعضهم لأنهم اعتادوا على حياة الغزو، فكان شعارهم الخوف، ودثارهم السيف، كما يصفهم أمير المؤمنين، عليه السلام، في كلمة من كلماته الرائعة.

وربما العرب والأمة الإسلامية والعالم لا يقدِّرون معنى تلك الولادة النورانية للحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله، لأنهم لا يتصورون وربما لا يخطر على بالهم ولا حتى في خيالهم وأوهامهم مدى البؤس الذي كان عليه العرب في تلك الفترة العصيبة، فكانوا يدفنون البنات وهن حيَّات، بالوأد، ويدفنون أنفسهم وأولادهم بالعفاد أو العفار في سنوات المجاعة، وبين ذلك يخافون أن يناموا إلا والسيف تحت رؤوسهم خوفاً على أنفسهم وعيالهم وأموالهم من بني عمومتهم العرب أنفسهم، فكانوا في حالة ضنك ومشقة من العيش، لاسيما والحروب التي استهلكت الطاقات وهدرت الدماء لأجل ناقة هنا، أو فرس هناك فتفانت أجيال منهم، فكانوا كبني إسرائيل يقتلون أنفسهم بأيديهم، ويسلطون الآخرين عليهم.

فالولادة المباركة للرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، التي كانت في عام الفيل حيث جاء أبرهة الحبشي بجيوشه الجرارة ويقودها الفيلة الكبار ليهدم بيت الله ويجبر الناس للتوجه للطواف في قصره ومعبده الذي بناه في اليمن، وكانت المعجزة الكبرى لشيبة الحمد عبد المطلب، والبشارة كانت على لسان أصغر وأحب ولده إليه الذبيح عبد الله، حين جاءت الأبابيل وأهلك الله ذلك الجيش بقصف من طائرات السماء، وبقذائف موجهة لا تحيد ولا تخيب تنزل على رأس أحدهم فيخر صريعاً هو ودابته إذا كانت تحته ويركبها، فكان عبد المطلب وموقفه ومقولته لأبرهة: “أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه”، حديث العرب في كل ناحية وفي كل خباء وخيمة وركب والكل يتحدث عن هذا الرجل العظيم.

في ذلك العام كان قد زوَّج ولده المبارك عبد الله من السيدة الطاهرة آمنة بنت وهب سيدة قريش وعقيلة العرب الطاهرة المطهرة، فحملت بذلك النور وسافر عنها زوجها وحبيبها في رحلة الصيف إلى الشام ولكن لم يرجع إليها لأنه قضى نحبه في مدينة يثرب فدفن عند أخواله بني النجار، وبعد أشهر قليلة ولد ذلك المولود الذي شهد العالم ولادته، وحدثت أحداث لم يعهد لمثلها من قبل، فكانت ولادة عجيبة وبركاتها كثيرة ورهيبة بحيث أنها أزعجت شياطين الجن، ثم أربكت شياطين الإنس معهم أيضاً لا سيما اليهود الذين كانوا ينتظرون هذا المولود بفارغ الصبر كما كانوا يدَّعون.

  •  ظواهر ومظاهر الولادة

 النور الأزهر؛ قالت السيدة آمنة أم النبي، صلى الله عليه وآله،: إن ابني والله سقط فاتقى الأرض بيده، ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثم خرج مني نوراً أضاء له كل شيء، وسمعتُ في الضوء قائلاً يقول: إنك قد ولدت سيِّد الناس فسميِّه محمداً، صلى الله عليه وآله، وأُتي به عبد المطلب لينظر إليه، وقد بلغه ما قالت أمه، فأخذه ووضعه في حجره، وهذا ما شهدت به القوابل من قريش أيضاً كشهادة أم عثمان بن العاص، وأم عبد الرحمن بن عوف، اللتين باتتا عند أم النبي ليلة الولادة، فقد قالتا: “رأينا نوراً حين الولادة أضاء لنا ما بين المشرق والمغرب”.

هذا النور الأزهر الذي أضاء الكون كله كان إشارة عظيمة لبلوغ الرسالة والهداية إلى شرق الأرض وغربها من هذا المولود المبارك، وهي البشارة التي نطق بها الرسول الكرم، صلى الله عليه وآله، في يوم غزوة الخندق وحين خرجت تلك الصخرة فنزل إليها بنفسه وأخذ المعول وكان كلما ضرب ضربت تخرج شرارة وضوء فيقول، صلى الله عليه وآله: “ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي اَلْأُولَى فَبَرَقَ بَرْقٌ اَلَّذِي رَأَيْتُمْ أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورَ اَلْحِيرَةِ، وَمَدَائِنَ كِسْرَى كَأَنَّهَا أَنْيَابُ اَلْكِلاَبِ، فَأَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ أَنَّ أَصْحَابِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ ضَرَبْتُ اَلثَّانِيَةَ فَبَرَقَ لِي اَلَّذِي رَأَيْتُمْ أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا اَلْقُصُورُ اَلْحُمْرُ مِنْ أَرْضِ اَلرُّومِ كَأَنَّهَا أَنْيَابُ اَلْكِلاَبِ فَأَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي اَلثَّالِثَةَ فَبَرَقَ لِي اَلَّذِي رَأَيْتُمْ أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورُ صَنْعَاءَ، فَكَأَنَّهَا أَنْيَابُ اَلْكِلاَبِ، وَأَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا”.

  • ولد الهدى وعمَّ الندى

نعم؛ هكذا كانت ولادة الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله، بداية لعهد جديد لم يعهده العرب ولا البشرية كلها منذ قرون مضت، فكانت ولادته كقطر الغيث من السماء، فأحيى الأرض بنداه وزاد في خيراتها وبركاتها، مع ما نشر فيها من الهدى والنور بالتوحيد لرب العالمين فأخرجهم من عبادة الأحجار والشجار إلى عبادة الرب الجبار، وأعاد للإنسان حريته وكرامته وشرفه وسؤدده الذي فقده تحت أقدام الجاهلية والعصبية والشهوات الدنيوية.

📌 التأمل بولادة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، تحمل لنا الكثير والكثير من الرسائل والمسائل التي يجب أن نعيد قراءتها ونستنير بنورها ونهتدي بهداها

فالتأمل بولادة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، تحمل لنا الكثير والكثير من الرسائل والمسائل التي يجب أن نعيد قراءتها ونستنير بنورها ونهتدي بهداها لأن الجاهلية الثانية تلوح في الآفاق في هذا العصر حيث خرج قرن الشيطان ويحاول إعادة الناس إلى الجاهلية التي انقذهم الله منها ببركة هذا المولود العظيم الذي يحرِّمون الاحتفال بمولده الشريف، بل ويمنعون الناس من تقبيل أعتابه المباركة، ليُبعدوا الأمة عن الهدى والنور الذي شعَّ وأضاء الكون برمته.

فالولادة النبوية الشريفة هي ولادة لكل خير، وبركة، وندى، وهدى، وعلينا أن نحتفل كما يليق وينبغي كما فعل ويفعل إخوتنا من أهل اليمن السعيد حيث أبهروا العالم باحتفالاتهم بالمولد الشريف، رغم الظروف الصعبة والقاسية بسبب الحرب الظالمة من تلك الشرذمة المارقة عن كل دين، وعن كل شرف وفضيلة وكرامة. 

عن المؤلف

أ.د سادسة حلاوي حمود ــ جامعة واسط ــ قسم تاريخ الأندلس والمغرب

اترك تعليقا