رأي

لماذا علينا التحدث بلغة الدم؟!

عندما ندين بعض الآباء على منهجهم العنيف في التعامل مع ابنائهم، بممارسة كل اشكال العنف والقسوة مثل؛ الضرب، والشتم، والصراخ، فنحن إنما نؤشر الى عاقبة سيئة للطفل في ظل هكذا منهجية تربوية، وآثار اجتماعية أكثر سوءاً وخطورة خارج الأسرة، فهذا الطفل سيكون شاباً في السوق او الجامعة او الشارع، ثم يتزوج ويكون أباً، فما هي اللغة التي يتقنها للتعامل مع الآخرين، غير ما فرضه عليه أبوه من قبل، وربما نسمع من بعض هؤلاء الشباب أنه لم يرتكب خطأ عندما يدمي زوجته او ابنه، او يتهجم على اصدقائه او جيرانه!

العراقيون يتميزون عن كثير من شعوب العالم بخصائص ليس اقلها إثارة؛ جمعهم بين متناقضات، فهم يعلمون جيداً أن من اسباب مشاكلهم طول الزمن، صراع القوى الخارجية للنفوذ والهيمنة على العراق، مع ذلك نراهم يحافظون على صفة الانفتاح مع القادمين من الخارج، وعدم حمل أي غلّ او ضغينة في القلب إزاء أحد، فهم كرماء وطيبون مع الجميع، وايضاً؛ فهو مثقل بالنكبات والمعاناة بسبب حروب كارثية فرضت عليه، حتى إن المجاورين لنا والبعيدين ينظرون الينا كمهزومين ومقهورين أمام كل شيء؛ الحاكم- القوى الكبرى- وحتى فيروس كورونا! بما يستوجب الشفقة علينا، ولكن! مايزال العراقي يفكر أن يكون الأول في كل شيء؛ الدين- الاخلاق- السياسة- ويشكو سريعاً من أي خطأ في هذه الميادين وغيرها، والخصيصة الاخرى الأكثر حيرة؛ انه بالرغم كل مشاهد الدماء والأشلاء والعنف الرهيب طيلة ثمانية عشر سنة من “النظام الديمقراطي”، فانه شعب متسامح- مبتسم- جملة: “الله كريم” على شفاه ابنائه.

هذه الخصائص والخصال نرى بأم العين تعرضها للاستهداف بقسوة وعنف دموي غير مسبوق، ليس لشيء سوى ليتخلى العراقيون عن كل ذلك، وإلا ما الفائدة المرجوة من وراء تفجير انتحاري او بزرع عبوة ناسفة وسط النساء والاطفال والباعة المتجولين في أسواق شعبية، وقبل يومين من عيد الاضحى المبارك؟ هل هي رسالة لمن يهمه الأمر بضرورة المشاركة في العملية السياسية كما حصل في بدايات الاطاحة بصدام، فالجميع مجتمعون على مائدة الحكم في بغداد، بمن فيهم البعثيون، ومؤخراً؛ مؤيدون او متناغمون مع تنظيم داعش؟ أم هي رسالة تهديد سياسي، فهل سوق شعبي او مستشفى، مكاناً مناسباً لقراءة رسائل سياسية من هذا النوع؟!

إن اسوأ وأخطر ما ارتكبته القوى السياسية الحاكمة في بغداد، إشاعتها لغة العنف والقسوة بين افراد المجتمع العراقي الذي لم يصدق انه تخلّص يوماً مما تجرعه من نظام صدام وحزب البعث طيلة ثلاثين عاماً، وتصور أنه سيعيش الأمان والاستقرار بما ينطبق مع خصاله وصفاته وخلفيته الحضارية والثقافية.

فبدلاً من تشكيل المنظمات التنموية التي تعني بالزراعة والتجارة والاستثمار، وتشكيل اتحادات طلابية لنشر الوعي والثقافة، ومراكز للبحوث العلمية، وغيرها من مظاهر المجتمع المدني (اللاعسكري)، راح البعض يوزع المسدسات، ويبارك للانشقاق من هذه الجماعة ويشكل مليشيا مستقلة لنفسه! ويسعى لشراء الذمم والولاءات بكل طريقة، مما يؤدي بالفرد المستهدف بالتخلّي مما يحمله من قيم ومبادئ.

المشكلة ليست في ظهور مليشيات او عصابات مدعومة من الساسة الحكام، او ضباط الانقلابات، فهي ظاهرة مألوفة، بل وطبيعية –الى حد كبير- في جميع دول العالم الثالث المبتلاة بالأمية السياسية، وهو ما شهدناه طيلة القرن الماضي، فالاغتيالات والسحل والاختطاف والترويع والتهجير وغيرها من اشكال العنف، تمثل الوسائل الوحيدة لمن يريد الحكم والاستمرار في قمة السلطة، إنما المشكلة في استخدام كل هذه الأدوات السياسية لضرب شيء بعيد، في أقصى الجذور الاجتماعية والثقافية والروحية للانسان.

لنأخذ مثال رواندا، الدولة الافريقية التي شهدت أغرب مشاهد القتل الجماعي في التاريخ الحديث في حرب داخلية بين قبيلتين متناحرتين أسفرت عن مصرع حوالي مليون انسان، واغتصاب حوالي ربع مليون امرأة في غضون اربعة أشهر فقط عام 1994! والعبرة في طريقة فتح صفحة جديدة من خلال برامج توعية اجتماعية، وفتح مراكز لمعالجات المصدومين نفسياً ممن شاهدوا الفضائع والمجازر لإعادة تأهيلهم، وتقول بعض التقارير أن العاصمة كيغالي تحولت الى أكثر المدن أمناً في العالم! وتوجه الناس الى العمل والانتاج بعيداً عن الكراهية والعنف.

بيد أن الوضع في العراق يختلف تماماً فالحرب ليست على الهيمنة والنفوذ، كما حصل في رواندا، او سائر البلاد الافريقية وغير الافريقية عندما عمّتها فوضى السلاح، وتهافت الاحزاب السياسية والجماعات المسلحة على السلطة، فالحرب كانت في الغابات والادغال وبين الوديان والمرتفات الجبلية، تحرق وتقتل الناس في ابدانهم، وليس في ارواحهم وأخلاقهم، وهذا الشعب الكردي في شمال العراق ليس ببعيد عنّا، فقد شهد معارك وتصفيات دموية بين احزاب وجماعات كردية في نفس المنطقة، راح ضحيتها المئات طيلة السنوات الماضية، أما اليوم عندما تذهب الى السليمانية شرقاً، او تذهب الى دهوك شمالاً، فانك تتحدث مع انسان كردي باعتداده بقوميته، و تمسكه بعاداته الاجتماعية وصفاته الاخلاقية دون أن يمسها شيء، حتى من كان ينتمي الى قوات “البيشمركة” فقد تحول الى رجل عسكري منضبط ضمن وزارة يستلم راتبه كل شهر، علماً أن كلمة “بيشمركة” مركبة من كلمتين: التقدم، والموت، وبمعنى؛ الفدائي، ولكن هل يفكر أحد هؤلاء الآن بما كان يفكر به الآباء من قبل، بعد الحصول على معظم حقوقهم –وربما كلها واكثر- وطيّ صفحة الظلم والحرمان؟

ولا أعتقد أن من يقف خلف حرق الناس وتقطيعهم أشلاء في  الشوارع والاسواق والمستشفيات، سيتخلي عن دوره المعد له بعناية، ما بقيت نقاط القوة في نفوس العراقيين، فهي مصدر خطر للجميع، ربما تتحول هذه القوة يوماً ما الى ضربة مفاجئة لهذه الجماعة او تلك، تهدد مصالحها السياسية، لمجرد توفر الإرادة والعزيمة، لذا يبدو أن العراقيين في ظل أوضاع كهذه أمام أمرين: إما الرضوخ لحياة العنف والدموية، وتوفير الأمن والاستقرار في الانتماء الى هذه المليشيات او ذاك الحزب، والتخلّي تماماً عن نظرة الثقة والاطئمنان والاحترام ازاء المنتمي الى جهة اخرى، أو القبول بأن يكون مثل الانسان المشلول يوزع الابتسامة للجميع من كرسيه المتحرك، ثم يكسب شفقتهم دون القدرة على أن يعرب عن غضبه او انتقاده لأي شيء منكر، فضلاً عن القدرة على تغيير واقعه ومحيطه.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا