بصائر

الحج مدرسة الإخلاص لله*

يقول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.

من أبعاد شخصيّة الأمة الإسلامية الحج، بالرغم من أن كل الفرائض الدينية ذات جانب اجتماعي؛ كصلاة الجمعة، والعيدين، وصلاة الجماعة، وكذلك الصيام حيث يتحسس الغني معاناة الفقراء، وكذا الامر في بقية الفرائض كالزكاة والخمس وما شابه.

إلا أنّ الحج ذو صبغة أساسية في بيان وبلورة شخصية الأمة الاسلامية، وعلى الرغم مما طرأ على الحج من تغييرات سلبية، إلا أن الحج يبقى كالطود الشامخ، والعلم الرفيع يعكس صبغة الأمة الإسلاميّة.

فالمسلمون من مختلف دول العالم يتوافدون على بيت الله الحرام، في وقت واحد، ويقومون بشعائر واحدة، ويتفاعلون فيما بينهم، وليس كل الناس توفّق لاداء هذه الفريضة، وإنما: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ}، فالذين يستطيعون الحج هم اصحاب الإمكانية الماديّة والجسديّة، أي علْية القوم.

أن الحج ذات صبغة أساسية في بيان وبلورة شخصية الأمة الاسلامية، وعلى الرغم مما طرأ على الحج من تغييرات سلبية، إلا أن الحج يبقى كالطود الشامخ، والعلم الرفيع يعكس صبغة الأمة الإسلاميّة

فإذا حجَّ من كل ألف شخص واحد ـ حسب قرارات المؤتمر الإسلامي ـ فهذا يعني من كل مليار إنسان، يحجون مليون، وهؤلاء يجتمعون مهما عملت يد التفرقة في فصل بعضهم عن بعض، عبر ايجاد قنوات خاصة لكل جماعة، إلا أنهم في الطواف، وفي الصلاة داخل المسجد، وداخل المسجد النبوي الشريف، وفي كثير من المواقع الأخرى يجتمعون ويتفاعلون مع بعضهم.  فأرواحهم، واجسامهم، وافكارهم تلتقي، وليس هناك مؤتمر في العالم أكبر من هذا.

في هذه الآيات التي تتكلم عن الحج؛ لماذا يبدأ ربنا بالكلام عن الصفا والمروة؟

هنا لابد من ملاحظة وهي: أنّ القرآن الكريم يبين الجوانب الخفيّة من الحقائق، وربما يبدأ بها، وأما الجوانب الظاهرة تكون لاحقة، ولهذا نرى بيان الجوانب الخفية في آيات الذكر الحكيم، بكلمات قويّة وصاعقة، وتثير الإنتباه.

فـ {الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} من الجوانب الخفية التي اوضحها القرآن الكريم، فالصفا هو الحجر الرخو، والمروة: الحجر القوي، وهما نتوأتان من جبلين يلتقيان عند المسجد الحرام، والطواف بينهما يكون في أرض قريبة على المسجد الحرام.

وشعيرة الطواف كانت موجودة من زمن قبل النبي ابراهيم، عليه السلام، لأن الكعبة كانت قد بُنيت قبل مجيئه اليها، وكذلك الحج كان موجودا.

روي عن بكير بن أعين، عن أخيه زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: “جعلني الله فداك أسألك في الحج منذ أربعين عاما فتفتيني، فقال: يا زرارة بيت يحج قبل آدم عليه السلام بألفي عام تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاما “.

 لذا فالنبي إبراهيم جدّد بناء الكعبة، وهذا ما تبينه الآية الكريمة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. بالاضافة الى ذلك جدّد شعائر الحج. وكذلك النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، جدّد شعائر ومناسك حج بيت الله الحرام، بعدما طرأ عليها بعض التغييرات من قبل الجاهليين.

فالصفا والمروة يجب أن يطوف الحاج بينهما، والطواف معناه: أن تنتهي من مكان ثم تبدأ به، والمشركين ابتدعوا اشياءً ليست من ضمن شعائر الحج، فقد وضعوا الاصنام على سطح الكعبة، وكل قبيلة أتت بصنمها ووضعته على السطح، وبأمر من الله ـ تعالى ـ للنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وبيد الإمام علي، عليه السلام، تم تكسير جميع الأصنام الموجودة.

  • هل نترك الدين بسبب بعض التصرفات الخاطئة؟

بين الصفا والمروة كان هناك صنمَين، اساف ونائلة، كانت قد وضعت من قبل المشركين، وحين جاء المسلمون للحج، ظنوا أن هذين الصنمين يمنعانهم من الطواف بين الصفا والمروة.

 وهنا لابد من التفاتة مهمة؛ إذا رأيت شخصاً يدّعي شيئا ويخالفه، فلا تدع ذلك يؤثر على عقيدتك، ـ فعلى سبيل المثال ـ إذا رأيت إنسانا يصلي لكنه يرتشي، أو سمعت ان احدهم يدعو الى الإسلام وتطبيق شريعته، لكنه غير ملتزم بذلك، فهذا لا يعني أن نترك الدِين بسبب أن بعض الأشخاص لا يلتزمون ببعض بنوده.

فوجود الصنمين بين الصفا والمروة ليس دليلا على أنه لا يوجد حج، أو ان يترك الناس هذه الشعيرة، لذلك ربنا يقول: {ِإنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، فليس لها علاقة بالجاهليين، أو  بالصنمين ـ آساف ونائلة ـ.

وكلمة شعيرة؛ جاءت من الشعور، أي المعرفة، أو ادنى أنواع المعرفة، فكل شيء يدعوك ويشعرك بالله فهو من شعائر الله، يقول الله ـ تعالى ـ: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}، والصفا والمروة من شعائر الله.

 و الصفا والمروة تجدّدت بقصة هاجر زوج النبي ابراهيم، عليه السلام، حينما أخذها وابنها اسماعيل الى مكة، ويسطر القرآن الكريم هذه الحادثة، يقول الله ـ تعالى ـ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.

ونحن اليوم ومنذ مئات السنين نطوف بين الصفا والمروة تخليدا لذكرى هاجر، عليها السلام، وسعيها للبحث عن الماء، والقصة مشهورة، ونرمي الجمرات ـ أيضا ـ تخليدا للنبي ابراهيم، عليه السلام.

إذا رأيت شخصاً يدّعي شيئا ويخالفه، فلا تدع ذلك يؤثر على عقيدتك، ـ فعلى سبيل المثال ـ إذا رأيت إنسانا يصلي لكنه يرتشي، أو سمعت ان احدهم يدعو الى الإسلام وتطبيق شريعته، لكنه غير ملتزم بذلك، فهذا لا يعني أن نترك الدِين بسبب أن بعض الأشخاص لا يلتزمون ببعض بنوده

وهذين التخليدين نستفيد منهما درسان؛ الأول: أن المؤمن إذا عمل في سبيل الله، فإنه ـ تعالى ـ لا يضيع عمله، “يا من لا تضيع عنده ودائعه”.

الثاني: التاريخ يجب أن يُعيد نفسه، ولذا يجب أن نذكّر أنفسنا بالسلف الصالح؛ بالنبي ابراهيم، وابنه اسماعيل، وهاجر، عليهم السلام.

فزيارة الأماكن المقدّسة من الأمور الضروريّة حتى نستذكر، ونعتبر من التأريخ، فعندما نزور أبي الفضل العباس، عليه السلام، نستحضر تلك الملحمة التاريخية التي سطرها في أرض كربلاء.

والأماكن المقدسة كالكعبة، والمسجد النبوي، ومراقد أهل البيت، عليهم السلام، هي التي ترجع الروح والحيويّة للإنسان، وأما اولئك الذين يحرّمون الحضور في تلك الأماكن الطاهرة، فهم لا يفهمون مدى أهميىة هذه الشعائر.

{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ}، والحج هو القصد، وليس كل قصد حج، فالحج هو القصد المكرّر.

{أَوْ اعْتَمَرَ}، وهو العمران، ومعناه؛ أن يأتي الإنسان في غير أيام الحج، أو قد يأتي في مناسبة الحج، ولكنه يقدم العمرة على الحج.

إنّ الحج من شعائر الله التي تقرّب إليه ـ تعالى ـ وهو ركيزة أساسية في بيان روح الأمة وتوطيد هويتها، والحضور في هذه الأماكن المقدسة من شأنه إعادة الروح والحيويّة على مستوى الفرد والأمة.

  • مقتبس من محاضرة للسيد المرجع المدرسي

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا