أدب

الإمام الحسن الحقيقة المغيبَة عن صفحات التاريخ*

 

[1]

لست أدري إن كنت أنا الذي يطرح السؤال عن المعنى المخبأ في كرسي الحكم، أم أنك أنت الذي توحي إليّ بالبحث في ماهية الحكم، ومن أي خشب تصنع قوائم الكرسي الذي يجلس عليه شخص الحاكم، ولكنني أرى، وأسنايد التاريخ تنقل إليّ ـ أنك لم تحكم ـ بضعة أشهر فقط، وتنازلت عن الحكم لمصحلة ألد عدو تاريخي لك، عمل على صقل مئة خنجر صبّها كلها في صدر أبيك الإمام علي عليه السلام.

وطبخ لك قدورا من السم، ما ونى يطبخها في كل جو تتنفس فيه رئتاك، حتى أرداك أخيرا مسموما في زاوية بيت لك في المدينة المنورة! ونام قريرا تحت قبة قصره الأخضر في الشام، مثبتا لأصلابه من بعده ـ كرسي ملك، خشبه من الأبنوس المطعم بالماس، والذهب، وكل أنواع الحجارة الكريمة.. ياللصولجان الذي يزهو بغلال الأرض، ودرها، مجبولة بأعراق الناس، وبكل جهد ينتجه العقل، والعلم وزنود العمل!

وكلها تتحول إلى ألوان يصطبغ بها هذا الصولجان ـ صولجان الحاكم ـ تمييزا له بالعنفوان المقتدر على صياغة كل شيء له، في إبراز مجده، وتلذذه في إشباع شهوته والتنعم بها وسيعا في الدنيا، كأن الدنيا وما فيها من تراب وشمس وسحاب ـ إنما هي مبذولة تحت قدميه، لا يجمعها إلا بكرا له في التمتع الشهي الذي يبتكر، في كل لحظة، لذاذة جديدة لا تريد أن تشبع، ولا تريد أن ترتوي، ولا تريد أن تنطفئ.

 

هذا هو نقل التاريخ عنك ـ كأن التاريخ آله فقط تأخذ ما يقع تحت عدستها، دون أن تقلبها من ظاهر الى باطن، ومن باطن الى باطن آخر، ربما تختفي فيه لؤلؤة لم تحلم أن ترى مثلها عدسة العين.

هذا هو شأنك مع التأريخ، ومع المؤرخين الذين لم يروا، أو لم يريدوا إلا هكذا أن يروا، مع أن التاريخ ـ في حقيقته العظيمة ـ هو أن لا يكون فقط مجذفا بسيطا على ظهر خشبة، بل أن يكون أيضا غواصا إلى القاع، وإلا فحرام أن يركب سفينة ويتسلم خشبة مجذاف.

 

فعلاً ـ أنت لم تحكم أيها الإمام ـ لا معنى لحكم يطول بضعة أشهر ويذهب مع الريح ـ إن الحكم هو مراس ومران ـ إنه علم وإطلاع وفهم ورؤية ـ أنه ـ أولا ـ إدارة الذات وفهمها، والغوص فيها، حتى يصلح لأن يكون إدارة جيل من الناس. أما أن تحكم بضعة أشهر ثم تتنازل عن الحكم، فإن ذلك، أيها الإمام، كان مربوطاً عندك بقصد هو التمهيد للوصول إلى نوع من الحكم يكون هو الأقوى والأبعد والأثبت، وهو لكان لنا الآن أن نحترم التاريخ الذي يتمكن من الرؤيا، ومن تسجيل القرارات.

ولكن ـ بالحقيقة ـ أنت الذي تمرست طويلا بالحكم أيها الإمام ـ لم تجلس الى كرسي له قوائم وعوارض من خشب، ولكنك توصلت وجلست فيه مملوءاً بمعانيه الجليلة، مغمورا غمرا بكل الأحاسيس والمشاعر، والمقاصد التي تغني النفس وتشحنها بنبل المرامي التي تخلق الإنسان وتصون حدوده بالأبعاد، وهي التي تبقيه حيا في إنسانية تتألف منها عبقرية المجتمعات الخالدة في مرابع الحياة ـ فليسمح لنا نتأكد من كل ذلك، إذ نستعيد قراءتك من جديد، فأنت عظيم أيها الإمام، وأنت جدير بكل درس ينشرك مجتمعنا العظيم المبني للوصول إلى كل عظمة.

 

[2]

أساسا أنت مدعو للحكم، أنت إمام في ضمير جدك، صلى الله عليه وآله، قبل أن تولد ـ وبعد أن ولدت أصبحت قرارا في حزمة من الشوق المبارك ـ هنيئاً لأمك بك، فأنت نسيج من خاصرتها الموصولة بخاصرة الحق ـ وهنيئاً لأبيك بخيوط الإرتباط، تشده إلى جدك بوجود لا ينسل له خيط ـ ولقد علمت أنت بذلك ـ أخبرتك أمك، وأخبرك أبوك أنك من البيت الذي هو ـ بحد ذاته ـ قضية، ولقد فهمت مليا أنك أنت القضية ـ بالحس الضمني فهمت، ومن عطف العين والحضن واليدين فهمت ـ ومن التصرف الكبير الوسيع الحد والبليغ الإشارة فهمت ـ وبالتعيين والتخصيص فهمت، وأبلغ ما فهمت، عندما وسُعَت عينيك، ورشُد لمحك وفهمك: إن الذين كان عليهم أن يفهموا ما أرادوا أن يفهموا، وأن الذين قصدوا أن يسمعوا لم يريدوا أن يسمعوا ـ ولقد فهمت أيضا لماذا لم يريدوا أن يفهموا ولماذا لم يريدوا أن يسمعوا.

 

لم تكن تعرف، عندما أغمض جدك، صلى الله عليه وآله، جفنه، أنك مدعو لخوض غمار العصر، والكشف عن النوايا المخبأة في الصدور، والإطلاع بكنه قضايا النفس، والوقوف على أسرار الوجود والعمل على اكتناهها، والتثقف بكل ذلك حتى يتم لك التمكين من الوصول إلى تحمل أعباء المسؤوليات الجسام التي تلقيها على منكبيك أعباء الإمامة التي أدركت فعلا أنك بإرادة التعيين، وإردة التخصيص، وإدارة النبوة. لقد كشفت كل ذلك باحتكاكك المتين بأبيك الكبير الذي كان ملاذك، وكان عملاقا أمامك، وكان حفّارا في بنائك، وكان قدوة أمام عينيك وأمام فكرك وأمام خيالك، وكان كتابك، وكان حرفا كبيراً في كل كلمة من قراءاتك، وكان جلوتك المضيئة، وكان إدارتك الخفية، وتصرفك الذي لم يعلن بعد، ثم انصهرت فيه فلم يكن لك عنه لمحة من انفصال.

لم يتناولك التاريخ بشيء من هذا الوصف بهذا التحديد، وبهذا الربط الأصيل ـ لأن التاريخ لا يحاول كثيرا شدّ حقَّويه بالمنطق، ويرضيه السرد الضئيل ، دون أن يستهويه النزول الى عمق خلف كل تحليل وتعليل، هل هي خلة عند التاريخ؟ أم هي كبوة في قلم المؤرخ، أنها ـ في نيته النائمة بين ضلوعه ـ شرخ من شروخ النفس، تلبس الغرض وتمشي به بلا مبالاة.

 

جلُّ ما في الأمر أيها الإمام أنك لم تقدر أن تلبس إلا قميصك المتصل بك ـ لم تكن تعرف في المتبدأ أنه قميصك ـ أو أنه قميص أبيك حتى ينتقل إليك، ولكنك أصبحت تعلم ذلك من تقدم خطواتك على الطريق. لقد أخذت بحس أن أباك الإمام علي، عليه السلام، هو الأولى من أبي بكر، ولكن أباك تمرس أمامك بالصبر على الحيف، فبدأت تكبر حروف الأمثولة أمام عينيك ـ ولما انتقلت الخلافة من جديد، وعادت فعلا إلى عمر بن الخطاب الذي هو فارسها المتلاعب بها في الساحة الخرساء، قرأ عليك أبوك أمثولة ثانية في تحمل الضيم، كيف أنه يقرع النفوس ويجلوها إلى عمق، وكبر، ورحت أنت ـ بعين أوسع وبصمت وتأمل ـ تلمح كيف أن الدروب تتغير بها الخطوات إلى انتقال في السير، تمحي به المعالم، وتتحول الأهداف إلى منطلقات أخرى تتشوه معها كل المقاصد.

 

[3]

لست أدري لماذا يكون على الأديب ـ مثلا ـ أن يفسر الأحداث، وليس على التاريخ أن يفعل ذلك؟ أتكون مهمة التاريخ في التلميح الضئيل، دون أن تكون له قيمة في التحليل والتعليل؟

لقد ذكر التاريخ بكل بساطة أيها الإمام ـ أنك تناولت الحكم لبضعة أشهر، ثم غسلت يديك منه ـ هكذا ـ كأنك تغسلهما من قطعة حلوى كنت تأكلها، وانتهيت، كـأنك لست من الحكم بشيء، ولست له بأي شيء.

ولقد ذكر التاريخ أيضا أن وصولك الى الحكم كان بعد مبايعة رصت إليك الصفوف، فما كان منك إلا أن أهملت مبايعتك وتركتهم وحدهم في طرف الميدان، ورحت تتصرف على هواك.

أي معنى لك أيها الإمام إذا كان مثل هذا قد حصل؟ ولماذا أنا اليوم ـ بعد أربعة عشر جيلا ـ أقف واحدا في الصف الطويل من المحبين لك والمتهيبين! إني أرى خفة السرد في التاريخ منقصة في حق الذات الإنسانية الشريفة، وتقليل وتخفيف من قيمة الرجال الأفذاذ الذي يجاهدون في نحت حجارة الأساس، لبناء مجتمعاتهم الإنسانية العظيمة، والإمام الحسن، عليه السلام، هو واحد من بين هؤلاء الذين عملوا بعقل وصمت ـ وصمتهم العظيم هو الذي يفسح لهم الآن بالشهادة.

 

[4]

أيها السيد، أيها الإمام ـ وليسمح لي التاريخ أن أقول: أيها العظيم.

إني أقر الآن أمامك، وأمام حقيقتي فيك، وأمام الواقع الرائع الذي نبتَ أنت منه ـ إني لم أدرك أنك عظيم إلا في الفترة الصغيرة التي وصفت بأنها بضعة أشهر ضئيلة جلست فيها الى كرسي الحكم، وما انسحبت منه إلا وفي حوزتك القرار ـ كأنه قضية السبق التي ينتزعها إلى يمينه الفارس السبّاق من طرف الميدان.

هنالك بطولتان حققتهما مترابطتين في المعنى وفي المغزر:

الأولى: هي تنازلك عن حكم يتسابق عليه كل طامع طامح ولا يتخلى عنه، ولو كلفه ذلك بتر الوريدين ـ إيه لعمري، كم يبذل الطامحون الطامعون في سبيل كرسي لا ليعدلوا به بين الناس، بل ليستذلوهم به إلى أبعد من الخضوع والرضوخ والسجود ـ إنهم السادة، لا العادلون الصائنون حدود العباد، بل إنهم المستغلونهم، والمستعبدونهم والجاعلونهم مطايا إلى أمجاد لهم، هي ثروتهم في الدنيا، وهي أوهامهم الطائشة الغاشمة، وهي عقلهم في كل شهوة زائفة عن حقيقة الحكم، وحقيقة العدل، وحقيقة الأساس.

والثانية: اتخاذك القرار النابع من معاناتك الكبيرة، والذي هو تعبير عن فهم حقيقة المجتمع الإنساني، وعن فهم تركيبته المادية ـ النفسية، وعن كيفية تقديم المعالجات الأساسية في فك معضلات ترافقه دائما في حلبات الصراع، وتؤدي به من معركة إلى معركة يستفيد منها عقله في عملية التمرس والتقويم والمرور بالخطأ الذي يتحول إلى زاجر موصل إلى صواب أو إلى نوع من صواب.

بطولتان ـ إذاً ـ تفرعت الثانية من الأولى، أو فلنقل: تضافرتا مندمجيتن في بناء الشخصية المثالية التي هي أنت أيها الإمام. فلندرسهما منفصلتين قبل أن نجمعهما في عملية التكوين الرائعة التي منها بنيت ذلك.

————————————–

  • مقتبس من كتاب ـ الإمام الحسن الكوثر المهدور ـ سليمان كتاني.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا