أدب

أين هو الإمام الحسين (3)*؟

 

ـ1ـ

إنه الآن هنا ثم هناك ـ لا يستقر له مقام ـ فبينما تراه قابعاً وجده في زاوية البيت، كأنه في إغفاءة التفكير، فإذا به، بعد لحظات قاسيات، يقيس الطريق بخطواته التائهة، بين ساحة البيت وباحة المسجد.
لقد فهم بعمق أن الحقيقة رهيبة اسمها الموت، قد تناولت جدَّه الحبيب، ولفَّته إليها، كأنها الزوبعة الرهيبة الهابطة من غياهب الغيب! أين هو جده الآن؟ وقد سحبته العاصفة من منبر المسجد؟ أتراه أصبح في البعيد البعيد، أم أنه لا يزال حيّاً في عذوبة الصدى، كما تحيا شجرة الآراك في ظلها الناعم.
ويرتاح الفتى، وهو مأخوذ بعفوية التصور، ويدخل المسجد الخالي من جدِّه، صلى الله عليه وآله، ومن المقرفصين المصغين .. ويعتلي المنبر يفتش عن المنكبين الرازحين تحت رأسٍ، كان يعرفه ـ بلمس كفيه ـ إنه أطرى من النعمة، وأشهى من الغنج، وأسخى من الدلال!
ولكنه لا يجد المنكبين، ولا الرأس تحت ملمس الكفّين، مع أنه راح يسمع الجدران الشبعانة من حفيف الصدى وهي تردد : هذا ابني من علي وفاطمة عليهما السلام، إنه وأخوه عقدة البيت، وإنهما سيدان من أسياد الجنة، وإنهما يردان عليَّ الحوض، وإنهما إمامان قاما أو قعدا.
هنا دائماً سنجد الإمام الحسين، عليه السلام. في المسجد، وفي زاوية البيت حضنه الأول والأحب والمخمس الأحضان ـ إنه ضمن حيطان المسجد، يلملم، مما علق عليها من نبرات جدِّه، كل الخيوط التي سينسج منها جبَّته وقمصانه.

ـ2ـ

لقد كان الإمام الحسين عليه السلام، باكر التمييز والنضج ـ لا نرد ذلك إلى بنيةٍ منسَّقة الانسجام، هي من نعمة باريها هبة كريمة يتمتع بها وجود الإنسان، أكثر من مما نعززها ـ وهي البنية الأصلية ـ بتنشئة واضحة القصد، والتوجيه، والإحاطة، فإذا هي طاقة مستعجلة إلى تلبية الغاية وبلوغ المرام.
لقد كان الإمام الحسين عليه السلام تلك البنية السليمة، بما شعّ عليها من دلائل نبل الفكر والروح، وهي كلها التي لمحتها عين النبي الكريم، صلى الله عليه وآله، متحدِّرة من صلب الإمام علي عليه السلام، فإذا هي ـ في عين الطفل وفي محياه ـ استجابة للأصل والجوهر، وتحقيق لأشواق الحلم الذي جاشت به تلك الليالي الصامتة: فكان الانبعاث، وكانت الرسالة، وكانت القضية، وكانت الوصيّة الهاجعة في عين الحلم.

من هنا كان وضوح القصد، ومن هنا كانت التنشئة معينة التوجيه، وكانت الاحاطة موحَّدة العناصر، وحاضرة الإعداد، وكانت البيئة ـ بحد ذاتها غنية بمواردها الفكرية ـ الروحية ـ الأصيلة في بُعدها وجوهرها، وتحقيقاتها الرائعة المثال.
لقد كان ذلك في الجو الذي راح الإمام الحسين، عليه السلام يتنفّس فيه ويدرج من حضن الى حضن، فكيف له ـ وهو الآن في ثمانية من العمر ـ أن لا يكون باكر النضج والتمييز، وكيف له أن لا يدرك ـ وهو تحت عين أبيه الإمام علي، عليه السلام، وبين يديه، وفي احتكاك لا يهدأ بروحه، وقلبه، ولسانه ـ أن جده صلى الله عليه وآله، الذي رجع مريضاً من حجة الوداع، وهو الذي أضناه التعب في الساحات الكبيرة التي امتصَّت فكره، وقلبه، وأوصاله، ـ وهو يتركها وقد خلَّف فيها الثقلين: عترته ورسالته ملفوفة بكتاب، وحلما أصيلاً بأن الجهد الكبير في الحياة، هو من الحياة، وأن الحق لا يموت، وأن الاستمرار هو الوصلة الجليّة، يتنقل الجهد بها وعليها إلى بقاء القيمة الخالدة في مجتمع الإنسان.
لقد أدرك الإمام الحسين، عليه السلام ـ وهو في بكرة طرية من العمر ـ أن جدَّه وأباه عليهما السلام، هما محيطان في الإصابة، وأدرك أن عليه ـ منذ الآن ـ أن ينمو ويترعرع في حضن جدّه، صلى الله عليه وآله، الذي غاب وبقي كامل الحضور في المسجد ـ أنها وصيته ـ لقد سمعها من جدِّه وهو يتغنَّج فوق منبر المسجد.

ـ3ـ

ما كان أبوه الإمام علي، عليه السلام، يخرج الى الساحات ويعود الى ركن البيت، إلّا وفي جعبته خبر ثقيل كأنه الرزيئة ـ لقد اجتمعوا أربعتهم الليلة هذه على الحصير حول صينية مدَّت عليها فاطمة، عليها السلام وجبة الطعام ـ أما الأب الذي كان يأكل قليلاً وهو يتحدث، فإنّه راح يوضّح لهم قصة السقيفة، سقيفة بني ساعدة، كيف وظَّفها عمر بن الخطاب لتبعده عن حقيقته في الأمارة، وإحلال أبي بكر فيها ـ كأن الرضوخ لمشيئة النبي، صلى الله عليه وآله هو الخطأ، وفي المعصية الصواب.
لقد تبسط إمامهم كيف أن في التصرف هذا استدعاءً أثيما لقبلية حاول النبي الحكيم، صلى الله عليه وآله، وأدها وتخليص مجتمع الامة منها، وإذا لها الآن تواً ـ أثر غيابه ـ عودة الى الأرض، وإلى النفوس، تنهدر بها الطاقات الفاعلة، وينشغل الزخم الواعي، متلهياً بالعرض عن الجوهر. إن الوحدة هي في الخطر المداهم تحمله سياسة الزعامات!
لقد شرح لهم بعمق، وهو مثقل المنكبين: أن للأعمال الكبيرة أوقاتا مرهونة بها ساعات مباركة مقرونة بالتحفّز، والرضوان، ولقد قطفتها ـ وفي حينونة ساعتها ـ نهدة الحق بنبيّها وبطلها الذي لم تنجب صنوه ملحمة من أقدس الملاحم في وجود الإنسان، واستطرد يقول: من لنا الآن ـ وقد غاب سيف صقيل من بيننا، وفوّتنا علينا تعهد ما غرسناه في البستان! لهفي على الرسالة، يلزمها المعين، ونقطع عنها ـ وهي طرية ـ هذا المعين!
ما كادت السيدة فاطمة عليها السلام، تستوعب مرارة البوح حتى عاصت في نشيجها، فهب الإمام الحسن، عليه السلام، يطيّب خاطرها ويهدئ من ثورة كالحة في صدرها وهو يقول: “إن خلف الليل هذا يا أمي هزيعاً آخراً، لابدَّ أن تطيب شمسه .. فرمقه الإمام الحسين عليه السلام، بعين سرحت منها نقطة دم، وهرول صوب الليل وهو يقول: جدّي ينتظرني في ساحة المسجد.

ـ 4ـ

بالرغم من أن المعتدى عليه كان يسكت ويصبر على الضيم، علَّ الليل يأتي بصباح آخر طيَّب الشمس، كان المعتدي لا يقبل إلّا بالتحدي.
لم يدرِ أهل البيت، عليهم السلام، في أيّة ساعة من ذلك الليل تسلل أموي ـ سفياني الى ساحة الدار واقتلع منها شجرة الآراك التي كانت وحدها مظلّة النبي، صلى الله عليه وآله، وكانت وحدها ظلاً يركن إليه صبية الحي ليلعبوا مع الحسن والحسين، عليهما السلام، في كل ضحوة محمومة بلهيب الشمس ـ في تلك الليلة بالذات، كان أهل البيت، عليهم السلام، محلقين حول عميدهم الإمام علي، عليه السلام، وهو يطلعهم على تصرف الخليفة أبي بكر بحجزه ( نحلة فدك) عنهم، كأنه لا يريد لهم أيّة بحبوحة من زرق تعولهم هي حشرة الشح!
ما تحملت فاطمة عليها السلام، عندما فتحت الباب مع الصباح ولمحت شجرتها العفيفة مطروحة فوق التراب، لقد تلفّعت بخمارها وانسابت كأنها قضيب من بان معكوف عليه صولجان، لقد تعلّق بذيلها ـ وهي تهرول ـ فتاها الحسين عليه السلام ـ لأنه عرف أنها تقصد المسجد.
لقد انتثرت ـ أمام من اغتصب المشيئة، واقتلع من الساحة شجرتها المظلِّلة ـ ثورة مبحوحة الصوت، ما ترددت انوثتها من قدّها النحيل، إلا وتبدّت بجبروتها من عنفوانها الاصيل ـ .
لقد أفهمته أن الأمة العظيمة التي ينشرها أبوها لتكون هدية ومثالاً على صفحة الارض، إنما هي صداه في جبروته المتلقط بالذمة الكريمة الطاهرة البناءة، وسألته: لماذا تعطلون أنتم الذمة؟ وتطمرون الصدى في حفر الجحيم؟ إن الشجرة للظل ـ فهي الوارفة ـ وتدَّعون أنكم ما قطعتم الظل إذا اقتلعتم الشجرة! ـ وفدك؟ أيّها المتنعمون بخيرات الفيء ـ وهل كان الفيء غيرظل من أظلالنا؟ ونحن استقيناه من كوثر النعيم ـ فلماذا تحرمونا منه ونحن الذين أفضناه؟
لقد أفعم الجو كله في باحة المسجد بنبرات صوتها التي لم تتمكن من تخليصها من الضعف والخفوت ..أما الحسين عليه السلام، فإنه راح يلتصق بها حتى لكأنه أصبح وتراً مشدوداً بعودها وهو يقول: “طبتِ طبتِ يا أماه، لو تقدرين أن تجعلي صوتك عالياً كالهدير فيه! كم أحب الآن أن يسمعه أولئك الذين هم نيام خلف جدران هذا المسجد ـ إرفعي صوتك أكثر وأكثر يا أمي، علّهم أيضاً، أولئك الذين هناك يسمعون.

* مقتبس من كتاب الإمام الحسين في حلة البرفير- للكاتب سليمان كتاني

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا