بسم الله الرحمن الرحيم
فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7).
تمهيد: وصل بنا الحوار في العدد الماضي إلى الآية الرابعة من هذه السورة المباركة، و في هذا العدد،نواصل الحوار حول باقي السورة؛ونبدؤه بالآية الخامسة:
نظر المعرفة
-
ما الفائدة من نظر الإنسان إلى بِدء خلقه ليقول: (فلينظر الإنسان مم خلق)؟
– لكي يتأكد الانسان من الحَفظة؛ فليفكر في نشأته : كيف كان نطفة ( في صلب أبيه ثم رحم أمه ) مهانة ضعيفة . من الذي حفظها في مسيرتها الصعبة ؟
أَوَتدري كم هي الانظمة الدقيقة التي تحيط بالنطفة وهي تتقلب من طور الى طور في رحم الأم ؟ وهل كان من الممكن لك ،وأنت نطفة ،أن تحفظ نفسك من الأخطار ؟
إذن؛(فلينظر الإنسان مم خلق) .إن هذا النظر يفتح أمام الانسان آفاقا من المعرفة ؛ لأنه يهتدي بذلك الى حقيقة نفسه و مدى ارتكاسها في العبودية و الحاجة ؛فيخرج من ظلمة الغرور و الكبر و التعالي الى نور الواقعية و التواضع ، كما انه ، بالنظر الى بدء نشأته ، يعرف مستقبله . أَوَليس الانسان يعود كما بدأ ؟
منشأ الخليقة
-
عندما يُذَكّر السياق الإنسان بمنشأِ خلقه ،و يقول: (خلق من ماء دافق)؛لماذا اختار هذا الوصف تحديداً؟
– من الصعب علينا تصور العدم حيث أنشأنا الباري لا من شيء كان ولا مثال احتذاه . ولكن ؛افلا نقدر على تصور المسافة بين النطفة و بين الانسان المتكامل ؟
إذا؛لنعرف أن المسافة بين النشأة الأولى حينما خلقنا الله من تراب و حتى جعلنا في صورة نطفة أبعد و أعظم . أما المسافة بين العدم و الوجود ؛فإنها لا تقاس بأية مسافة اخرى ؛ لأن تصور العدم من قبلنا يشبه المستحيل .
دعنا، إذا، ننظر الى حيث كنا قطرات من ماء دافق ، و نتساءل : كيف كنا ؟ والآن كيف صرنا ؟
أفليس الذي حولنا من تلك الحالة الى حيث نحن بقادر على ان يعيدنا بعد الموت ؟ بلى ؛إنه على كل شيء قدير .
إن الإنسان ( خلق من ماء دافق)؛ينبعث من الصلب الى الرحم ليستقر في مقام أمين حيث يُنشئه خلقا آخر .
ولعل كلمة ” من ” ،هنا، تشير الى أن هذه القطرة المتواضعة ليست كلها منشأ خلق البشر؛ بل شيء منها . بلى ؛ فإن خلية واحدة بين ملايين الخلايا هي منشأ خلقة هذا العالم الكبير الذي يُختصر في بناء الانسان؛ فإنها حين تستقر في الرحم ،تبدأ بامتصاص الغذاء لتنشطر الى خلايا ؛ثم تتكون كل خلية في زاوية ليصنع الله منها جزءاً من وجود الانسان بدقة و لطف حتى تكتمل نشأته .
تذكرة إيمانية
-
هل من تذكرة إيمانية من الإمام المعصوم،عليه السلام،بهذا الخصوص؟
– نعم .نستمع ،هنا، الى تذكرة ايمانية على لسان الامام الصادق ، عليه السلام ، في حديثه المفصل الى تلميذه المفضل بن عمر حيث يقول :
” نبتدئ يا مفضل بذكر خلق الانسان فاعتبر به ، فأول ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم ، وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن ، و ظلمة الرحم ، و ظلمة المشيمة ، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ، ولا دفع أذى ، ولا إستجلاب منفعة ، ولا دفع مضرة ، فانه يجري اليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاؤه حتى اذا كمل خلقه ، و استحكم بدنه ، و قوي أديمه على مباشرة الهواء ، و بصره على ملاقات الضياء ، هاج الطلق بأمه فأزعجه أشد ازعاج و أعنفه حتى يولد ، و إذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمه الى ثدييها ، فانقلب الطعم و اللون الى ضرب آخر من الغذاء ، وهو أشد موافقة للمولود من الدم ، فيوافيه في وقت حاجته اليه ، فحين يولد قد تلمظ و حرك شفتيه طلبا للرضاع ، فهو يجد ثدي أمه كالأدواتين المعلقتين لحاجته اليه ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن ، رقيق الأمعاء ، لين الأعضاء ، حتى اذا تحرك و احتاج الى غذاء فيه صلابة ليشتد و يقوي بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان و الأضراس ليمضغ به الطعام فيلين عليه ، و يسهل له اساغته ، فلا يزال كذلك حتى يدرك ، فاذا ادرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه ، فكان ذلك علامة الذكر و عز الرجل الذي يخرج به من حد الصبا و شبه النساء ، وإن كانت أئثى يبقى وجهها نقيا من الشعر ، لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرك الرجال لما فيه دوام النسل و بقاؤه .
اعتبر يا مفضل فيما يدبر به الانسان في هذه الأحوال المختلفة ، هل ترى يمكن أن يكون بالإهمال ؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم ألم يكن سيذوي و يجف كما يجف النبات اذا فقد الماء ؟ ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه ألم يكن سيبقى في الرحم كالموؤود في الأرض ؟ ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته ألم يكن سيموت جوعا ، او يغتذي بغذاء لا يلاُئمه ولا يصلح عليه بدنه ؟ ولو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام و إساغته ، أو يقيمه على الرضاع فلا يشد بدنه ولا يصلح لعمل ؟ ثم كان تشتغل امه بنفسه عن تربية غيره من الاولاد ، ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته ألم يكن سيقى في هيأة الصبيان و النساء فلا ترى له جلالة ولا وقارا ؟!” (1) .
الصلب و الترائب
-
ماذا يعني خروج الإنسان من بين الصلب و الترائب ؛ كما قال : ( يخرج من بين الصلب و الترائب)؟
– هذه النطفة المتدفقة من صلب الذكر تلتقي على ميعاد، بأخرى من ترائب الأنثى لتلقحها ،و هذا الماء ( يخرج من بين الصلب و الترائب).
قالوا : الترائب نواحي الصدر ، و واحدتها تريبة ، وهو مأخوذ من تذليل حركتها كالتراب . أما الصلب فهو عظم الظهر و مخه .
و يجيب بعضهم عن ذلك بالقول :
إن صلب الانسان هو عموده الفقري ، و ترائبه هي عظام صدره ، و يكاد معناه يقتصر على الجدار الصدري الأسفل ، و يضيف : في الاسبوع السادس و السابع من حياة الجنين في الرحم ينشأ ما يسمى ” جسم و ولف وقناته ” على كل جانب من جانبي العمود الفقري ، ومن جزء من هذا تنشأ الكلى و الجهاز البولي ، ومن جزء آخر تنشأ الخصية في الرجل و المبيض في المرأة ، فكل من الخصية و المبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلي ، و يقع بين الصلب والترائب؛ أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا و مقابل أسفل الضلوع .
و يضيف : وكل من الخصية و المبيض بعد كل نموه يأخذ في الهبــوط الى مكانه المعروف ، فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانهـا في الصفن ( وعاء الخصية ) و يهبط المبيض ، حتى يأخذ مكانه في الحوض بجوار بوق الرحم (2) .
ليس بلغز
-
هل في قوله تعالى : (إنه على رجعه لقادر) حل للغز الحياة بعد الموت؛ مثلاً؟
– الحقائق الكبرى تنزلق من قلب البشر لما فيها من ثقل و فخامة ؛ و لذلك يحتاج الانسان الى العروج اليها عبر سلم الحقائق الجزئية التي هي مفرداتها و تجلياتها ، كما أن أشعة الشمس هي ظلال لعينها . إنما يسمو الفؤاد الى مستوى الحقائق الكبرى إذا اتخذ سلما اليها ، اما لو تركز فيها النظر و تسمرت عليها القدم؛ فانها ستكون عقبة دون الصعود و حجابا دون الرؤية ، وهذه هي مشكلة البشر الرئيسية ؛انه يتوقف عند الحقائق الجزئية .
أفلا نرى آثار قدرة الرب في كل خلية و ذرة ، مع كل لحظة من لحظات الحياة ؟ بلى ؛ ولكن لماذا القلب لا يزال مرتابا في الآخرة ، ولا يزال محجوبا عن وعيها ؟ و حتى المؤمن بها بصورة مبدئية تراه يتعامل معها بشك ؛لانه لا يسمو بعقله و وعيه عبر الحقائق التي تتجلى فيها قدرة الرب سبحانه ، وهكذا لا يستطيع طرد وسوسة الشيطان من قلبه .
كيف يعيد الله الانسان بعد أن أضحى ترابا ؟
تعالوا نفترض : ان الخلية الحية التي خُلق الانسان بها تبقى كذلك دون ان تفنى ، وانما تتلاشى الخلايا الاضافية التي اجتمعت حولها في الرحم بعد اللقاح ، و ان الله يحفظ تلك الخلية في وعاء القبر أو في أي وعاء آخر ، كما حفظها في صلب الرجل من قبل .
ثم انه سبحانه يهيىء الارض لنموها من جديد كما نمت في رحم الام . اَوَنجد في ذلك غرابة ؟ كلا ؛ ونحن نعرف أن الخلية الحية يمكن أن تعيش في ظروف مختلفة و بصور شتى ، و بعض الخلايا تعيش في ظروف صعبة جدا ؛ فلماذا نستغرب، مثلا ،ان تكون تلك الخلية الرئيسية من أمثالها ؟
هذه الفكرة التي قلنا آنفا انها نظرية نجدها تكفينا لحل اللغز التالي :
كيف يعيد الله الانسان بعد الموت ؟ و أقول : “تكفينا ” لان قيمة النظرية حل اللغز ، ولعل نظريات أخرى تكون موجودة ، ولكن وجود نظرية واحدة تُغني عن غيرها لنفي حالة التشكيك في الحقيقة .
على ان هذه ليست مجرد نظرية ، وانما وردت عليها رواية مأثورة عن الامام الصادق ، عليه السلام ؛ انه سئل عن الميت يبلى جسده ؟ قال : ” نعم . حتى لا يبقى لحم ولا عظم إلا طينته التي خلق منها ، فانها لا تبلى ، تبقى مستديرة في القبر حتى يخلق منها كما خلق أول مرة ” (3) .
وهكذا قال ربنا بعد ان ذكّرنا بالنشأة الأولى : ( إنه على رجعه لقادر). (التتمة في العدد القادم).
————————————
- بحار الأنوار،ج3،ص62.
- تفسير البصائر،ج54،ص367.
- تفسير البصائر،ج54،ص355.