غير مصنف

من يخسر الإحسان لا يربح بالظلم شيئاً

في طبيعة الإنسان طاقتان قديرتان؛ العقل والعاطفة، إذ تنبعث من كل واحدة منهما سلسلة من القوى التي ..

في طبيعة الإنسان طاقتان قديرتان؛ العقل والعاطفة، إذ تنبعث من كل واحدة منهما سلسلة من القوى التي تبعث بالفرد والمجتمع أسمى مقام وأرفعه لو استخدمت للاغراض الصالحة.
والعقل عادة، متأخر في بروزه عن العاطفة، فبينما نرى ان الانسان يولد ويأتي إلى هذا العالم طفلاً حاملاً بين ترائبه جذوة من العاطفة تنمو سريعا، نجد انه لا يكتمل العقل عنده الا بعد البلوغ، بل لا يصل كامل نضجه إلا بعد الثامنة والعشرين، فيما يقول البعض انه قد لايصل الى ذلك الا مع الاربعين!
ان معدل وزن المخ ـ العضو الذي يلتقط أشعة العقل ـ في الوليد هو: 330 غراماً في الولد، 283 غراما في البنت، ولا يبلغ 1374 غراما الذي هو معدل وزن المخ في الرجل الكامل ولا 1244 الذي هو معدله في المرأة الكاملة إلا بعد السنة الرابعة عشرة فقط، بينما يشعر قلب الوليد بحب الذات ـ والدفاع عنها والحب فيها ـ في الاسابيع الاولى من حياته، بل اللحظات الاولى منها، وقد أكدت التجارب ان الوليد الجديد ليس ـ كما يزعم بعض الناس ـ كتلة من عظم ولحم ودم، وانما هو إنسان كامل يسير نحو التكامل بسرعة مدهشة ويلتقط صوراً عن الحياة يختزنها في حافظته ويتعود بكيفيات العالم واحوالها، وهو بعد ذلك يحب ويكره.

  • العقل – العدل، العاطفة – الاحسان

والاسلام حيث انه دين يراعي كافة مناحي كيان الإنسان وسائر عناصر وجوده، يولي كلاً من العقل والعاطفة نصيبهما المفروض من العناية والرعاية.
فمن العقل ينبعث العدل، ومن العاطفة يتفجر الاحسان، لذا نجد أن الاسلام يأمر «بالعدل والاحسان» معا، يأمر بالعدل لكي يحفظ توازن الامة او الشعب او المجتمع، فلا يطغى قوي ويهضم ضعيف، ويأكل مقتدر ويؤكل مستهان، ويأمر بالعدل، لانه مقياس النظام الصحيح، والنظام روح الحياة، فدنيا بلا نظام انما هي دنيا بلا روح وبلا حياة، فبالعدل خُلق الإنسان ورُزق، وبالعدل بُني كيانه وتماسك عناصره، وركبت تركيباً، وبالعدل ايضا يجب ان يولد الإنسان بسلام واطمئنان لا تتناقض قواه ولا تتصادم.
في الوقت ذاته، يأمر الاسلام بالاحسان لأنه شعلة دافئة تخفف من وطأة الحياة وقسوتها، وهو انبعاث حلو يمتزج بمر العيش فيطيبه ويهنئه، ويأمر بالاحسان لان الحياة بدونه أبرد من قلب الخائف، وأقتم من لون الرعد، وأشد من سرير القتاد، يأمر بالاحسان لان العاطفة غريزة اصيلة في كيان الإنسان، فالغض عنها يعني الغض عن اقوى عناصر الحياة، والاحسان انما هو كهربة عاطفية تنمي الحب وتزرع الوداد، فوجب ان تلاحظ وتراعى.
ان العقل والعاطفة من شأنهما بناء حياة سعيدة للإنسان، فيجب اذن؛ ان نعد العدل وليداً للعقل، والاحسان وليد العاطفة جنبا إلى جنب لتحقيق الهدف الاساسي للإنسان؛ حياة هادئة وديعة.
يقول القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، (سورة النحل: 90)، ويقول: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، (سورة المائدة: 8)، وعن أمير المؤمنين، عليه السلام: «ان اهل الأرض لمرحومون ماتحابوا وادوا الامانة. وعملوا الحق». يشير هذا الحديث إلى ان عناصر الحياة القريرة الرفيهة تنحصر في ثلاثة: «الحب والعدل والحق».

  • معادلة القوي والأقوى

ان العدالة تحتل المنزلة الاسمى بين القيم الانسانية ويجب ان تقف كل طاقات الإنسان في سبيل الدفاع عنها لدى عروض ما يهددها أو يشكل خطراً عليها، يقول الإمام علي، عليه السلام: «…والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على ان أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وان دنياكم اهون عندي من ورقة في فم جرادة».
ان القانون الطبيعي الذي يكشفه لنا القرآن الكريم يقضي على صاحب الظلم ان يحصد ندامة وشراً مستطيراً، يقول الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، (سورة الشورى: 42). {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، (سورة الشعراء: 227).
وقد يحلو للإنسان ان يظلم استجابة لمصلحة مادية أو عرض دنيا زائلة، ولكن عليه ان يفكر، أليس في العالم من هو أقوى مني؟ وقد تقول ثم ماذا…؟! سوف اظلم الآن، وانتظر الظلم بدوري! ولكن عليك ان تفكر في انك تعيش في وسط اجتماعي تحتاج إليه اكثر مما يحتاج إليك، ويقوى عليك اكثر مما تقوى عليه، فلو اصبح الظلم مفهوماً شائعاً وعادة مستمرة، اذن لاصابك من ظلم الناس لك اضعاف ما تفعله بهم.
يقول الإمام الصادق، عليه السلام، كاشفاً عن هذا الواقع الطبيعي «من يفعل الشر بالناس فلا ينكر الشر إذا فعل به». «اما أنه يحصد ابن ادم ما يزرع وليس احد من المر حلواً، ولا من الحلو مراً». «من ظلم سلط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه».
ما يصيب الظالم من جراء عمله فصل مادي ونفسي بين نفسه والآخرين الذين يعدونه رجلا مجرما بغيضا، فيخسر تعاونهم في الحياة، هذه التي لا تصلح الا بالتعاون والتكافل، فالشريك الذي يهضم حق شريكه لا يشترك معه احد، ومدير الشركة الذي يعتدي على اموال المساهمة لا يعتمد عليه في ادارة شركة اخرى بعد ان تسقط شركته عن الثقة الاجتماعية، والحاكم والمسؤول الذي يظلم في الحكم لابد ألا ينتخب مرة ثانية، وألا يتعاون الشعب معه في سراء أو ضراء، وهكذا… فاذا بالظالم يعيش في فراغ مريع، وهنا يتبين عهد ظلم الناس به، اذ ان المجتمع لا يملك مقياساً دقيقاً يجازي الإنسان بقدر جرمه، بل سوف يزيد على ذلك انتقاماً، كما تحصل في الثورات والانتفاضات ضد الطغاة والظلمة في التاريخ.

  • التحذير من الظلم لنا جميعاً

قد يزعم بعضنا ان الكلام حول الظلم يختص بطائفة من الرؤساء اوالمدراء والمسؤولين او وأصحاب رؤوس الأموال واولي القوة والسلطان، بينما الامر يشمل مجالات واسعة ومختلفة، فالضعيف يظلم القوي، إذا لا يطيعه في الذي يجب ان يطيعه، فالعامل يكسل والصانع يغفل والولد يسيء إلى والده، والمريض لا يتعاون مع الدكتور في وصاياه، والقوي يظلم حينما يهضم الوالد حق ابنه والمدير حق موظفيه والزوج حق زوجته، وهكذا، فكل ذلك ظلم.
ولئن كان الظلم وخيم العاقبة في الدنيا، فكيف هو في ميزان العمل عند الله سبحانه؟! الا تأتينا نصغي إلى الرسول، صلى الله عليه وآله، يشرح لنا مغبته في الحياة الآخرة، فيقول: «جور ساعة في حكم اشد واعظم عند الله من معاصي تسعين سنة»، وجاء عنه ايضاً: «اتقوا الظلم فانه ظلمات يوم القيامة».
ارأيت رحمة اوسع ومغفرة اشمل وحنانا ادفأ من رحمة الله وحنانه وغفرانه! ان هذه الرحمة الوسيعة تحبس عن الظالم فلا يمكنه حتى ان يذكر الله بكلمة، وبالقدر الذي ينذر الإسلام من عاقبة الظلم يبشر بعاقبة العدل بالحسنى فيقول الرسول: «عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها».
ما اسهل الصيام والقيام إذا قورن بالعدل حينما يخالف مصلحة الفرد وشهوته الملحة العنودة وما احلى العدل في هذه الحالة التي تميز الإنسان وتسمو به عن درك الحيوان إلى قمة إنسانيته العليا. وليست إنسانية الإنسان تقف على هذا الحد وان كان رائعا جميلا بل انها تأبى الا ان يدخل الإنسان روضات الإحسان، وما هو الإحسان: الإحسان فيض سخي ينبع عن كرم النفس البشرية واسمى قمة تبلغها في مسيرة القيم الرفيعة.
ومن يحسن إلى الناس بيد واحدة، فانه سوف يكسب أيادي كثيرة لانه يخلق لنفسه وسطا محسنا، فيحسن إليه في كل شيء، في نفس الوقت الذي يكسب محبة الناس ويربح ثقتهم ومتى ما وضع فريق من الناس ثقتهم في فرد فهنيئاً له وهنيئاً لهم، هنيئاً له اذ يذهب بخير الدنيا والآخرة. ويعيش حياة هادئة بلا قلق ولا اضطراب، وهنيئاً لهم اذ يتوحد جمعهم ويلم شملهم ويصبحون خلية اجتماعية مترابطة متكافلة.
فما اجدر بك ان تحسن إلى المجتمع وانت احوج إليه منه اليك، انت عضو من المجتمع فكن عضواً قديراً مباركاً، وبقدر ما يكسب المحسن في الدنيا من الاجر الجميل ويجني من الثمرة المباركة يفوز في الآخرة برضوان الله وبجنة عرضها السماوات والارض.

عن المؤلف

زكي الناصر

اترك تعليقا