ثقافة رسالية

مدينة (الهلوسة) العالمية

تصور لو أنك تعيش في مدينة، يملأها الضجيج، لا شيء فيها يسير على قانون، كل من في هذه المدينة يتحدث بلغته الخاصة، وثقافته الخاصة، وقناعاته الخاصة، بل …

تصور لو أنك تعيش في مدينة، يملأها الضجيج، لا شيء فيها يسير على قانون، كل من في هذه المدينة يتحدث بلغته الخاصة، وثقافته الخاصة، وقناعاته الخاصة، بل ويرتدي ثيابه الخاصة، ويبني داره كما يشاء، بل ويلصق المنشورات التي يرغب فيها والصور التي تعجبه على الجدران كما يشاء.
مدينة ليس فيها من يجمع القمامة، لا يوجد فيها أنظمة وقوانين حتى أنها لا تنام ليلا ولا النهار.
لعلك تتخيل أنه يبدوا كرنفالا جميلاً، نسبة النشاط فيه مرتفع جداً، ويشعرك هذا بالمرح، لكن كم يمكنك أن تقاوم هناك؟
هل يمكنك أن تستمر بالعيش في هذه المدينة لأكثر من اسبوع؟
ماذا لو عاش الإنسان في هذه المدينة لفترة طويلة؟ كيف ستكون سلوكياته؟ كيف يفكر؟ ماذا يسعده وماذا يشقيه؟
وهذا هو أهم سؤال حير الباحثين في القرن الواحد والعشرين، فإن هذه المدينة هي التي نعيشها اليوم جميعاً وهي ما نسميه بوسائل التواصل الإجتماعي.
وأنا اسميه “مدينة الهلوسة العالمية”، هذا المكان الذي نزوره يومياً أصبح وطننا، نقضي فيه عشرات الساعات بل ربما المآت اسبوعياً، حتى أكثر مما نقضيه مع المجتمع المحيط بنا.
لكن ترى من الذي وضع لها هذه الهيكلية؟ من خطط لها لتكون كذلك و هل هي بيئة صالحة لتصرف البشرية فيها المليارات من الساعات ؟

  • تطور الحياة البشرية

حين أراد البشر أن ينتقل الى العيش في المدن، فكروا في كل شيء، فهناك تحديات كبيرة، سوق المدينة، شبكات الطرق والمواصلات، شبكات المياه والمجاري، أماكن التنزه والتلاقي و..
ثم مع تطور الأبنية وتوسع المدن أصبحت التحديات أعقد وأعقد، فصارت هندسة المدن من القضايا التي تحتاج إلى دراسات تخصصية في الجامعات ويكتب عنها الكتب والبحوث.
لكن ماذا عن هذه المدينة الجديدة، التي انتمى اليها الناس، من وضع أسس العيش فيها، هل فكر أحدهم في مآلات ومفاسد العيش بلا حدود؟
ألا ترى كيف أن هذه الفضاءات التي كانت من المفترض أن تحذف الحدود بين البشرية، عمقت الانقسامات الاجتماعية والعرقية القائمة.
فيسبوك كان مشروعاً لتبادل الصور بين طلبة الجامعات في الأقسام الداخلية، ثم أصبح اليوم منصة لربط مليارات البشر، وأصبح يتدخل في تغيير مصير الدول والثورات، والتأثير على نتائج الانتخابات.
من يمكنه أن يتنبأ بما سيؤول اليه الأمر في قادم الأيام؟ ومن يتحمل المسؤولية في ذلك، كل هذه الأسئلة وغيرها أصبحت مثار جدل بين العلماء.

  • تأثر الإنسان بالبيئة

لا يختلف علماء الاجتماع اليوم على أن البيئة التي يعيشها الإنسان تؤثر في سلوكه بل وفي طريقة تفكيره بشكل كبير، ولذا فإنهم متفقون كذلك على أن بيئة التواصل الاجتماعي بدأت تغير من سلوك الناس سلبياً بصورة كبيرة.
وخطورة الأمر تكمن أن هذه المدينة لا يوجد فيها شيء من الملكية والإنصاف، بالرغم من أنها تتظاهر بالعكس تماماً، فلو تصورنا أن تويتر عبارة عن مدينة، فهي مدينة مملوكة لعدد قليل من الأشخاص ومُحسَّنة من أجل تحقيق عائد مالي أو عوائد اخرى.
ولذلك تحولت هذه المواقع وهذه الوسائل إلى أدوات للحرب الناعمة، بدل أن تكون وسائل للتقارب، فأصبحنا نسير وبسرعة كبيرة في الاتجاه الخاطئ، وكما قال القرآن الكريم: [أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ].

  • نسير عكس الإتجاه

كلما أسرعت البشرية وتوسعت رقعة الإستفادة من هذه الوسائل كلما نقترب من الإنهيار أكثر، ليس ذلك تنبأً بل هو بيان للحقيقة المقبلة، لأننا نسير عكس الإتجاه الصحيح، ألا ترى كيف أن هذه الوسائل أصبحت أدوات إماتة القلب؟!
أ ليست دعوة النبي، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته ووصاياهم تخالف كثير مما نفعله في هذه المدينة الجديدة؟
مع الأسف الشديد نجد أن هذه الوسائل أصبحت وسائل لموت القلب، على سبيل المثال فإن ربنا سبحانه نهى النجوى إلا في ثلاث وهي الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس فقال: [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاس‏]، لكن المحادثات الخاصة في هذه الوسائل التي هي النوع الحديث من النجوى تكون ـ في أغلب الأحيان ـ على عكس هذه الثلاث تماماً.
وفي وصية النبي، صلى الله عليه وآله، لأبي ذر الغفاري رضوان الله عليه قال له: “عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ فَإِنَّهُ مَطْرَدَةُ لِلشَّيَاطِينِ وَ عَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ”، ثم قال: “إِيَّاكَ وَ كَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ”، فقال أبو ذر يا رسول الله زدني فقال: “انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ تَحْتَكَ وَ لَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرِي نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْك‏”.

  • لمستقبل أفضل

على الصعيد الشخصي، فإن المستقبل الأفضل هو رهن وضع قوانين وأسس للعيش في هذه المدينة الجديدة، وأما على الصعيد العام فإننا بحاجة إلى إعادة التفكير في ثلاثي: البنية والبرمجة والمسؤولية لهذه المدن.
فكما أن المدن الصالحة للعيش هي التي تتوفر فيها البنية السليمة والخطط والأنظمة المنظمة لحياة الناس والجهة المسؤولة كذلك نحن بحاجة إلى ذلك في مدينة الهلوسة العالمية، فكما تحتاج المدن الى مهندسين يخططون، فنحن اليوم بحاجة إلى مثل ذلك بالنسبة للحياة الافتراضية.
كما نقوم ببناء الحدائق العامة والمكتبات والملتقيات والأسواق فنحن بحاجة إلى هندسة ذلك في المدينة الجديدة أيضاً.
وبتعبير آخر: إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي هي موطننا الجديد، فلنجعلها مكاناً مريحاً وجميلاً للعيش فيه، مكان نشعر فيه بالأمن لمختلف شرائح المجتمع.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

1 تعليق

اترك تعليقا