أسوة حسنة

الإمام زين العابدين سيفٌ في وجه بني أمية

تصور لو أنك تعيش في مجتمع شعاره الخوف ….

تصور لو أنك تعيش في مجتمع شعاره الخوف.
الإباحية تنتشر فيه بل هي مدعومة من قبل الأنظمة الحاكمة.
الإيمان بالله قد يكلف المرء حياته وقد بلغ بالطغيان مرتبة أن يدوس أقدس المقدسات وينتهك أعظم الحرمات.
الفقر والإستكانة تعصف بالناس فلا يجد المرء قوت يومه ويتجرع شظف العيش يوماً بعد يوم.
فهل يمكن لأحد أن يعيش في مجتمع كهذا؟
لا تعجب؛ فإن هذا هو حال المجتمع الإسلامي في فترة إمامة زين العابدين، الإمام علي بن الحسين السجاد، عليه الصلاة والسلام.
فقد داست حوافر خيل الأعداء صدر آخر ابن بنت نبي على وجه الأرض!
واحتفلت جحافل الكفر بانتصارهم على جبهة الإيمان بالله، فرفعوا رأس ريحانة رسول الله، صلى الله عليه وآله، على رأس رمح طويل، وأخذوا أطهر النساء سبياً يساقون في البراري والفلوات.
لم يبقى شيء، فأضحى الطاغوت وسلطته الماجنة تروج للفسق والفجور، فيحتفل الأمير بانتصاره بموائد الخمور ليعلن عودة الجاهلية الجهلاء بشعره المعروف: “لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل”!
بيت الله يضرب بالمنجنيق، وتباح مدينة رسول الله، صلى الله عليه وآله، من قبل جيش مسلم (مسرف) بن عقبة، حتى حملت النساء من دون زواج، و جرت الدماء في أزقة المدينة حتى بلغت حرم النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله.

  • الإمام زين العابدين والمواجهة الإيمانية

في مثل هذه الظروف الصعبة، حيث يتعطش العدو لدماء الإمام زين العابدين، عليه السلام، حيث كان أمثال الحجاج يقتل من يكون اسمه “علي”، وهو الذي أحصوا من قتلهم، فوجودوهم أكثر من مأة وعشرين الف شخص، ومات في سجونه ثمانون ألف رجل وامرأة، في مثل هذه الظروف أدار الإمام زين العابدين أعظم تحول في الأمة الإسلامية.
أن تتحول الأمة من أمة ـ كما قال هو عليه السلام ـ ليس فيهم عشرون رجلاً يحبون الله ورسوله، إلى آلاف التلاميذ عند الإمام الباقر، عليه السلام، يستقون منه العلوم، كل ذلك يحدث بين عام 61 للهجرة، حتى عام 95، أي في فترة 34 عاماً من إمامته الشريفة.
فكيف واجه الإمام، عليه السلام، كل تلك التحديات، ولتتحول الأمة هذا التحول العظيم؟

  • أين نحن من الصحيفة السجادية؟

لم يكن الإمام، عليه السلام، يجبن عن مواجهة طغاة بني أمية، كيف وهو الذي تحدى أعتى طغاتهم؛ يزيد في مجلسه وقلب عليه عاصمته بخطبته وكلماته حين قطع عليه المؤذن الخطبة و وصل إلى الشهادة للنبي بالنبوة قال له مخاطباً: “مُحَمَّدٌ هَذَا جَدِّي أَمْ جَدُّكَ يَا يَزِيدُ فَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّهُ جَدُّكَ فَقَدْ كَذَبْتَ وَ كَفَرْتَ وَ إِنْ زَعَمْتَ أَنَّهُ جَدِّي فَلِمَ قَتَلْتَ عِتْرَتَهُ”؟
إلا أن الإمام، عليه السلام، علم أن الفرصة قد أينعت لإستثمار واقعة الطف، لتثور الأمة الإسلامية على طغيان بني أمية، لكن ذلك لا يتم إلا بعد أن يمهد لهذه الثورة ببناء جيل من الرساليين الواعين من جهة.
ومن جهة أخرى: يجب أن تشغل المواجهة السياسية الإمام عن واجب آخر لا يقل أهمية عن إقتلاع السلطة الفاسدة وهو أن ينتشل الإمام، عليه السلام، الأمة الغارقة في وحل المجون.
وقد قام عليه السلام بكل ذلك عبر ثلاثة أساليب:

  • الأول: تجييش العواطف والتذكير بالطف

حيث كان، عليه السلام، لا يفتأ من البكاء على مصيبة أبيه الحسين، عليه السلام، ويستثمر كل فرصة لتذكير الناس بما فعله هؤلاء بأطهر خلق الله، وكان لهذا الأمر الأثر البالغ في تحريك الكثير من الثورات ضد ظلم بني أمية.

  • الثاني: تربية الرجال

فقد تتلمذ على يد الإمام آلاف الرجال، ولا عجب أن يربي الإمام السجاد، ذو الثفنات، ثائراً كابنه زيد، كما كان يشتري العبيد ثم يعتقهم كل عام، وفي حلول عيد الفطر السعيد، ليبثهم في الآفاق بعد أن يعمق فيهم الإيمان ويربيهم على أسس العمل الرسالي، ومن هنا نجد أن الأمة الإسلامية لم تبرد حرارتها منذ ذلك اليوم، فكانت تقوم الثورات الواحدة بعد الأخرى في أرجاء الأمة الإسلامية، الامر الذي تسبب في هشاشة الدولة الأموية وفقدانهم السيطرة على الكثير من المناطق حتى انهارت دولتهم وانتقلوا الى مزبلة التاريخ.

  • الثالث: بث كنوز المعرفة عبر الأدعية والمناجاة

لم تكن أدعية الإمام السجاد، عليه السلام، ومناجاته الطويلة هي طريقة من طرق التصوف وإعتزال الحياة الإجتماعية، بل كانت في صميم حاجة المجتمع.
فقد امتدت أيدي التحريف في ماكنة بني أمية الإعلامية إلى أحاديث النبي، صلى الله عليه وآله، ومنعت سلطتهم الطاغية كتابة أحاديث النبي، والرواية عنه، و أدخل مستشاروهم الشبهات إلى الأمة في العقيدة، فانحرفت الأمة في الأخلاق والسلوك بتشجيع منهم، فلم يبق طريق لمواجهة كل ذلك إلا الدعاء!
أليس النبي، صلى الله عليه وآله، يقول: “الدُّعَاءُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ وَ عَمُودُ الدِّينِ وَ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ”.
وقد ترك لنا الإمام، عليه السلام، كنوزا عظيمة من المعرفة وخط لنا أروع طرق التزكية، وليس دعاء أبي حمزة الثمالي إلا واحدة من مناجاته مع ربه في ليالي شهر رمضان!
ومع الأسف، هذه الكنوز لما تستخرج، وهذه الطرق لما تُسلك بعد! ولعمري كما أن من المعيب على أمة تمتلك الخزائن المادية الضخمة وهي تعيش الفقر المدقع، كذلك من المعيب أن تمتلك أمة كنوزاً من المعارف والعلوم ثم تجعلها بين دفات الكتب وعلى رفوف المكتبات.
وهذه هي أعظم مشكلة تُبتلى بها أمة من الأمم، بأن تملك الدواء لدائها، لكنها تعيش سقيمة، و أن تملك علاج مصيبتها، لكنها تعاني قسوتها، و أن يمدها الله بحبل منه فتتركه لتأخذ حبلاً من الناس!
هذا هو حالنا اليوم؛ فإذا كان الشيخ الجوهري الطنطاوي، العالم الأزهري صاحب “الجواهر في تفسير القرآن” المتوفى 1940، يكتب في جوابه الى العلامة المرعشي النجفي، الذي بعث إليه نسخة من الصحيفة السجادية: “ومن الشقَاء أنَّا إلى الآن لم نَقِفْ عَلى هذا الأثر القَيِّم الخالد في مواريث النُبوَّة وأهل البيت، وإنِّي كُلَّما تأمَّلتُها رأيتها فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق”، فما عسانا أن نقول وهي بين أيدينا ولما نستفد منها بعد!

  • بين يدي الصحيفة السجادية

لا بأس من التعرض لهذه الصحيفة المباركة في مقامين:
المقام الأول: وقفة في سندها
وبالرغم من أن هذه الصحيفة لا غبار عليها من حيث السند وانتسابها إلى الإمام زين العابدين، نجد الإعراض عنها خصوصا من بعض المذاهب الإسلامية، فتراهم يتشدقون بأدعية ليس لها أصل ولا فصل، و يدعون هذه الأدعية العظيمة في البلاغة والمضامين.
وقد وصلت الصحيفة عن الإمام زين العابدين عبر حفيده، يحيى بن زيد، الذي ثار طلباً لثأر أبيه، و حين التقى بأحد أصحاب الإمام الصادق، و اسمه؛ المتوكل، وأعلمه المتوكل أن الإمام قال بأن يحيى يقتل، أخرج له الصحيفة لحفظها.
وحين قدم المتوكل إلى الإمام الصادق، عليه السلام، وأخبره بخبر الصحيفة، و أراه تلك الصحيفة بكى الإمام، عليه السلام، وقال: “هَذَا وَ اللَّهِ خَطُّ عَمِّي زَيْدٍ وَ دُعَاءُ جَدِّي عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ”.
ثم أمر إسماعيل ولده أن يأتي بصحيفة فقبلها ووضعها على عينه وقال: “هَذَا خَطُّ أَبِي وَ إِمْلَاءُ جَدِّي عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِمَشْهَدٍ مِنِّي”.
وقد نقل عن العلامة المجلسي أنه وجد لها كلاً و جزءاً أكثر من 156 ألف سند، وقد بلغت شروحها المآئة.
وبالمحصلة؛ لا غبار على سند هذه الصحيفة وأنها من الإمام زين العابدين عليه السلام(1).
المقام الثاني: وقفة في مضامين الصحيفة
تسمى الصحيفة عندنا بالصحيفة الكاملة إذ أن بعض المذاهب الإسلامية الأخرى تحتفظ بأجزاء منها، وهي في الحقيقة ومع الأسف ليست بكاملة، فإن الصحيفة الكاملة 64 دعاء والتي بأيدينا قد فقد منها عشرة.
نعم؛ أضاف البعض خمسة أدعية جعلوها من المستدركات، ولا يمكن الجزم بكونها منها، ويكفينا تلك الأدعية الموجودة والتي تناولت قضايا العقيدة في التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد، وتناولت الجانب الاجتماعي في بناء العلاقات بين افراد المجتمع، وفيها الدعاء للولد وللوالد، وللجار وغيرها كثير.
كما تناولت الصحيفة البعد الأخلاقي، بأرقى أسلوب، و أبهى مضمون، ولا يكاد عجبي ينقضي منها، فخذ مثلاً على ذلك ما في دعاء مكارم الأخلاق كيف يطلب الإمام من الله –تعالى- مكارم الأخلاق في الوقت الذي يريدها منزهة عن آفاتها فيقول: “وَ أَغْنِنِي وَ أَوْسِعْ عَلَيَّ فِي رِزْقِكَ، وَ لَا تَفْتِنِّي بِالنَّظَرِ، وَ أَعِزَّنِي وَ لَا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ، وَ عَبِّدْنِي لَكَ وَ لَا تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ، وَ أَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدِيَ الْخَيْرَ وَ لَا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ، وَ هَبْ لِي مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَ اعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ”.
والحق أننا اليوم أحوج ما نكون إلى استخراج هذه الكنوز العظيمة وترجمتها في حياتنا العملية، فيحفظ اطفالنا في المدارس دعاء الولد لأبويه، وتزين البلدية المدن بمقاطع من أدعية الإمام في طلب الغيث ومعاملة الجار ومكارم الأخلاق، ويعتاد الكسبة على قراءة دعاء الشكر، وتوزع المشافي دعائه في طلب العافية، وأن يتحصن شبابنا بدعائه على الشيطان، لنعيش في بحبوحة المعرفة الإلهية ونحظى بسعادة الدارين.

————————–

  • بالرغم من بلاغة نهج البلاغة، إلا أن البعض شكك في انستابه للإمام أمير المؤمنين، عليه السلام، فكتب أحدهم أنها من قول الشريف الرضي الذي جمع خطب وكلمات أمير المؤمنين، وقال آخرون أنها من إملاء أخيه السيد المرتضى، حتى استخرج العالم الفذّ؛ امتياز علي خان العرشي في الهند، ما يوثق عائدية الخطب والكلمات الى أمير المؤمنين، من مصادرها فاستخرج على سبيل المثال؛ من الجاحظ بعضاً منها وهو الذي مات قبل ولادة السيد الرضي وغيرها.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا