مكارم الأخلاق

وسّع رؤيتك تكتشف ذاتك

{فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}. (سورة الأنعام- الآية 125).

يجرى الحديث كثيراً عن اكتشاف الذات، في سياق الموضوعات المتعلقة بـ “التنمية البشرية” والمناحي الايجابية لتفكير الانسان الفرد ضمن علاقته بينه وبين نفسه، فمن تحدث عن الاكتشاف هذا في مجال ما يمتلكه الانسان من قدرات ومواهب تكون تحت ضوء الاكتشاف والصقل، ثم الاستثمار، وهو ما ذهب اليه علماء النفس الايجابي، معتقدين إن اكتشاف الذات نتاج خطوات عملية يتخذها الانسان بينه وبين نفسه من جهة؛ وبينه وبين الآخرين من جهة أخرى، مثل تجنب مواطن التشاؤم والسلبيات، والاعتداد بالنفس والثقة المطلقة بها، وعدم الجنوح الى جلد الذات كثيراً.

أما علماء الدين فقد بينوا أن اكتشاف الذات يتحقق عندما يخرج الانسان من ذاته ويتطلع الى ما حوله، ومن حوله، ومن ثم الى الأفق البعيد، والى عواقب الأمور، عندها يعرف مدى قدرته على تحقيق السعادة، ومواجهة المشاكل والتحديات، ولذا نرى الربط الوثيق في الروايات والاحاديث عن المعصومين، عليهم السلام، وايضاً من بصائر القرآن الكريم، بين حُسن الخلق وحسن السريرة، وحالة الطمأنينة والرضى وكل دلائل السلامة النفسية، وايضاً النجاح في العلاقات مع الآخرين، ومثال على هذا؛ السعادة، فقد أكد العلماء الباحثون في مجال الأخلاق، أن الفرد لن يستشعر السعادة بشكل صحيح وحقيقي، إلا بعد أن يمنح جزءاً منها الآخرين من حوله.

  • اجراءات تخدير مؤقت

المشكلة النفسية العتيدة التي يراقبها العلماء منذ حوالي قرن من الزمن، وتترك آثارها المباشرة والسيئة على الاوضاع الاقتصادية والسياسية، بدأت بالتطور والتغوّل مع تطور وسائل العيش المفترض انها توفر السعادة والرخاء، بينما الملاحظ أنها، ليست فقط فشلت في هذا، وإنما عمّقت مشاعر العزلة والتقوقع والذاتية في نفوس البشر، وقد أدرك الكثير، وراح يسجل هذه الملاحظة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كيف أن مسيرة التطور العلمي والتقني تسلب منهم تآلف الأسرة الواحدة، وحالات الرضى، والاطمئنان، والسلام في المحيط الاجتماعي.

⭐ علماء الدين بينوا أن اكتشاف الذات يتحقق عندما يخرج الانسان من ذاته ويتطلع الى ما حوله، ومن حوله، ومن ثم الى الأفق البعيد، والى عواقب الأمور، عندها يعرف مدى قدرته على تحقيق السعادة، ومواجهة المشاكل والتحديات

فبعد أن كانت عادة التدخين تمثل المخرج للكثير من سجن الذات، او التنفيس عن الكبت والفشل الداخلي، الى جانب فعاليات عديدة على صعيد المجتمع ظهرت لمحاولة التخفيف من هذه المعاناة النفسية، مثل السينما، ومتابعة الالعاب الرياضية وغيرها، ومن ثمّ متابعة النجوم والابطال، بدأت محاولات جديدة في العصر الحديث، نراها في انتشار المطاعم ومجمعات التسوّق، وأماكنان الاصطياف والاستجمام، ولا ننسى في هذا السياق الإشارة الى ما هو مهيمن على العقول والأذواق والسلوك، ألا وهو؛ الانترنت، و ذراعه الطويلة المتمثلة بوسائل “التواصل الاجتماعي”، وهي الجملة المعرّبة والمجترحة مما أنتجه الغربيون من وسيلة للتواصل بين الافراد، وكانت الريادة لـ”فيسبوك”، أو التعريف بالوجه او الصورة، او ربما تكون لها ترجمات مختلفة باللغة العربية.

طبعاً؛ لا تُنكر الآثار الايجابية من كل هذه الفعاليات على الانسان، ولا نقصد تقييد الحالة السلبية بها بشكل مطلق، إنما المقصود الاشارة الى التعكّز عليها لتكون البديل عن سُبل أصيلة تخرج الانسان من حدود ذاته الى رحاب الحياة والحقائق، فالانسان يحتاج الى التفسّح وتغيير الاجواء مستفيداً من جمال الطبيعة، بما ينفض عن نفسه مشاعر الملل والتعب، وهذا عادةً لا يكون بشكل فردي، وإنما تتم السفرات والرحلات مع افراد العائلة والاصدقاء، بما يقوي أواصر العلاقة ويعطي للقيم الاخلاقية مصاديقها العملية.

  • لماذا القلق رغم توفر كل شيء؟

ما نلاحظه اليوم؛ توفر كل اشكال الرفاهية ووسائل العيش التي لم يحلم بها الآباء والاجداد، فقد بلغ التطور التقني حداً أن يعطي لربة البيت إحصائية مفصّلة عما في ثلاجتها لتعرف القليل منه فتشتريه من السوق بفضل برامج حديثة على الانترنت تتابعه من خلال هاتفها الجوال وهي وسط السوق، مع تعدد الموارد المالية وظهور حرف ومهن لم تكن موجودة في السابق، وعلاوة الى سهولة اقتناء مختلف السلع ومستلزمات الحياة، من الطفل الصغير وحتى الرجل والمرأة الكبيرة، فان امراً آخر أضيف الى قائمة الايجابيات وهو؛ فرصة التعلّم الى مراحل متقدمة، والحصول على شهادات جامعية من بلدان مختلفة في العالم، كل هذا المنجز العظيم والمعطيات الكبيرة عجزت عن حل مشكلة صغيرة لا تكاد تُرى بالعين، كامنة في نفوس الكثير، وهي القلق، والكآبة، والاضطراب، فهي ترافق التاجر، والعالم، والسياسي، فضلاً عن عامة الناس ممن يصعب عليهم النوم ليلاً بسبب التفكير بالديون والفوائد و التأرجح في الاسعار، وغياب القوانين الواضحة والصارمة، مما جعل الكثير –إن لم نقل جميعهم- يفضلون العيش في يومهم ولسان حالهم؛ الاستمتاع باليوم واللحظة خير من التفكير بأيام حلوة قادمة.

⭐ العمل الرئيس للرسالات الالهية انها تعطي الانسان الهدف، و ترسم امامه شيئاً يتحرك نحوه، لانه يمتلك على الاقل الذاتية

 حتى ما يرسمه البعض من اهداف يعدونها نوعاً من التخطيط والتفكير لقادم الأيام، كما يفعل طالب الجامعة مع دراسته وشهادته الجامعية، وكيف ستحمله الى الوظيفة اللائقة ذات المرتب الجيد، انه يقول إنه “هدف”، ولكن من سنخ الاهداف التي يرسمها الانسان ويترك بصماته عليها ويتحكم بها من نقطة البداية الى النهاية، فربما يكون هنالك رفضٌ حكومي، او قرارا مفاجئ يدمّر كل شيء، فيعود صاحبه الى زاويته الكئيبة وانطوائيته وتقوقعه الموجود أصلاً في نفسه.

من هنا نجد أن “العمل الرئيس للرسالات الالهية انها تعطي الانسان الهدف، و ترسم امامه شيئاً يتحرك نحوه، لانه يمتلك على الاقل الذاتية”، (الاخلاق عنوان الايمان ومنطلق التقدم- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي)، والتي تساعده ليس على الدوران حول نفسه، وإنما لاكتشاف العالم والحقائق في الحياة بين افراد المجتمع.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا