رأي

ملعب كربلاء في طريق الامام الحسين

وصف العلماء التاريخ بانه نهر جارٍ مع الزمن يتخلل الاقوام والحضارات والحكومات فيتأثر بهم ويؤثرون فيه سلباً وايجاباً. وهكذا الامام الحسين، عليه السلام، و واقعة الطف على أرض كربلاء، فقد مرت عليه الازمان والاحقاب، فمنذ أن وجد على هذه الارض، شهد تدمير البناء البسيط على المرقد الشريف على يد المتوكل العباسي، ثم التنكيل بالزائرين وتهديدهم بالقتل، بالمقابل شهد الثورات والانتفاضات انطلاقاً من هذه البقعة ايضاً، ومن ثم التحول الى عهد البناء والإعمار، ليتوافد الملوك والزعماء، يتقربون اليه طلباً للشرعية السياسية، ثم راح الشعراء والأدباء ينظمون الأبيات تلو الابيات في قصائد بات من الصعب عدّها، وهي بين رثاء، وبين ثناء وتمجيد.

يذهب الحكام والعلماء والادباء، وتتعاقب الأجيال وتبقى كربلاء تتسع يوماً بعد آخر سكانياً وعمرانياً، كما توسعت ثقافياً وحضارياً بفضل الحوزات العلمية ونشاط ثلّة من علماء الدين الرساليين، والجميع يسعى لتسجيل اسمه في هذا التاريخ النابض، ليس فقط من أسس المضائف للزائرين، والحسينيات للمعزين، والمشاريع الخيرية والعلمية والثقافية، وليس فقط من أجاد بشعره وأدبه وقمله ليحلق صوب نجوم النهضة الحسينية، بل حتى الزعماء السياسيين قبل وبعد تأسيس الدولة العراقية، جربوا حظهم في هذا المسار، ما عدا بعض المواقف الطائفية من ساسة ارتبطت اعمالهم في كربلاء بما فعله المتوكل العباسي، وكان آخرهم صدام، رغم أنه حاول الظهور امام العراقيين والمسلمين بانه يعتني بالمراقد والمقامات الدينية كمعالم أثرية وحسب.

فحتى يومنا هذا، الجميع يقف على اعتاب كربلاء الحسين، يستلهم منه الدروس والعبر، بيد أن الذي يحصل هذه الايام نوعاً من الاعمال غير المتوازنة وغير المتوافقة مع ما شهدته المدينة المقدسة طيلة عقود، بل وقرون من الزمن، فما شهدناه في ملعب كربلاء الدولي في مراسيم افتتاح بطولة رياضية، من أعمال فنية استوردها البعض من البلاد الاجنبية، لتكون في بداية أي دورة رياضية دولية، مثل تقديم عروض بهلوانية، او ألعاب خفّة بالكرة والأشرطة الملونة وغيرها من العروض الجذابة والمثيرة، أما في عندنا في ملعب كربلاء، فقد شهد حضوراً مفاجئاً لفتيات سافرات توزعن بين الرقص على الانغام وسط الملعب، وبين من تعزف على آلة الكمان النشيد الوطني العراقي، وبين من تؤدي دور عريف حفل الافتتاح بكلمات ترحيب رقيقة.

القائمون على حفل الافتتاح ارتكبوا خطأ، ربما يكون غير مقصود بتقديم عروض تتعارض تماماً مع هوية المدينة، وهو ما تنكره جميع المحافل الرياضية والفنية في العالم، لنلاحظ دورات الألعاب الاولمبية، او دورات كأس العالم لكرة القدم، وغيرها من البطولات الرياضية العالمية، كيف أن البلد المضيف يقدم في حفل الافتتاح ما يعبر عن هويته وانتمائه وتراثه، من خلال العروض الفلكلورية، وتصدير رموزها الثقافية كأن يكون حيواناً نادراً، او طرازاً من الملابس الشعبية، او غير ذلك.

وبما ان قضية الامام الحسين، عليه السلام، التحمت بالضمير الانساني، فقد تجسدت في سلوك وثقافة المجتمع في موائد الطعام التي تُمد للزائرين، وبالماء البارد الذي يوزع في كل مكان داخل كربلاء المقدسة (السبيل)، وفي الدعوة لإلغاء التمييز العنصري (في قصة العبد جون)، وفي حرية العقيدة والرأي (الحر الرياحي)، وفي شجاعة الشباب وبسالتهم وإقدامهم على الموت دون القيم والمبادئ (علي الأكبر والقاسم)، ومحاربة القسوة والفضاضة (مقتل الرضيع). كل هذه الملاحم التي خلقتها كربلاء خلال ساعات معدودة من ظهيرة اليوم العاشر من المحرم، يمكن ان تتحول اليوم، وكل يوم، الى لوحات فنية مذهلة تأسر القلوب والعقول في العالم.

وليس من الصعب على الفنانين والمصممين المبدعين الاستلهام من هذه اللوحات الرائعة لتكون عناوين جذابة في مكان رياضي؛ ومنها ملعب كربلاء الدولي، كأن يوزع الماء البارد في كل أنحاء الملعب باسم الامام الحسين، عليه السلام، او تقام عروض فلكلورية تقدم صورة لتحطم أغلال العبودية والديكتاتورية وانطلاق حمامات السلام والحرية والكرامة الانسانية، او تقدم الشخصية البطولية للمرأة، ليكون في الاذهان أن الامام الحسين وما قام به من تضحيات، إنما من اجل حياة افضل للانسانية جمعاء، وليس للمسلمين وحسب.

إنها فرصة لكربلاء المقدسة بعد امتلاكها صرحاً رياضياً بهذه الضخامة المثيرة للاعجاب، ذو صفة دولية لينقل صورة هذه المدينة الى العالم، وتثبت فيها هويتها الحقيقية، والتأكيد على أن الحرية التي ينعم بها الناس في كربلاء والعراق بأسره، إنما هي بفضل تضحيات الامام الحسين واصحابه، وهو  المبدأ الذي تتبجح به عديد المنظمات والمؤسسات الدولية بعد اربعة عشر قرناً من الزمن،  والأهم من ذلك ، تكشف للعالم حجم التضحيات الجسام التي قدمتها كربلاء وسائر المدن العراقية لإبقاء جذوة النهضة الحسينية متقدة في النفوس، إذ قدم خيرة الشباب والشابات أرواحهم في عهد نظام حزب البعث الذي حاول القضاء على هذه النهضة في العقول والقلوب، وبفضل هذه بقاء هذه الروح الإصلاحية والتقدمية في النفوس، والصمود والتحدي طيلة العقود الماضية، تمكن الاميركيون من الوصول الى العراق والى كربلاء والاطاحة بنظام صدام واستبداله بنظام “ديمقراطي”.

 

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا