إضاءات تدبریة

القرآن الكريم في شهر رمضان بطعم آخر

تكثر في ليالي شهر المحافل القرآنية التي تجمع الناس من مختلف الأعمار في حلقات جميلة بالمساجد والحسينيات يتلون فيها الآيات الكريمة في إطار ختمة القرآن الكريم خلال الثلاثين يوماً من أيام الشهر الفضيل، أو في إطار تعلّم أحكام التلاوة، وفي البيوت ايضاً؛ نلاحظ الحرص من المؤمنين والمؤمنات على ملازمة الكتاب المجيد ليكونوا مصداق الحديث الشريف: “شهر رمضان ربيع القرآن”، وتلاوة أجزائه الثلاثين طيلة أيام الشهر.

عملٌ مبارك يبعث في النفس السكينة والاطمئنان، ويخرج صاحبه من همومه ومشاغله الدنيوية الى رحاب الحِكم الإلهية، والعِبر، والأحكام، والأخلاق، وكل ما أنزله الله –تعالى- لتحقيق سعادة الانسان في الدارين.

وبما أن القرآن الكريم مصدر خير وهداية مثل الشمس في ضيائه، ومثل النبوع في تدفقه، كلما اقتربنا، استفدنا أكثر لحياتنا اليومية، وفي تعاملاتنا فيما بيننا، وايضاً؛ ما يتعلق بعقديتنا وسلوكنا.

⭐ بما أن القرآن الكريم مصدر خير وهداية مثل الشمس في ضيائه، ومثل النبوع في تدفقه، كلما اقتربنا، استفدنا أكثر لحياتنا اليومية، وفي تعاملاتنا فيما بيننا، وايضاً؛ ما يتعلق بعقديتنا وسلوكنا

إنها فرصة ذهبية لأن نتعرف على القرآن الكريم بشكل مختلف عن سائر ايام السنة، فيكون له طعمٌ آخر، ربما يكون منطلقاً لمزيد من الفهم والاستيعاب خلال المداومة عليه بعد شهر رمضان المبارك.

أن نتذوق طعماً متميزاً من قرائتنا لآيات الكتاب المجيد نحتاج خطوتين، -ربما من خطوات- أساس:

  • الخطوة الأولى: فهم المعاني

في القرآن الكريم آيات واضحة المعنى، لاسيما في الاجزاء الأولى حيث تتحدث عن علاقة الانسان بربه، وبتجارب بني اسرائيل مع انبيائهم، وعن التوحيد، ومضامين اخرى واضحة الى حدٍ ما، إنما يأتي القرآن الكريم على ذكر قصص الانبياء فيذكر كلمات غير مفهومة لعامة الناس، مثل “التابوت” في قصة أحد اقوام بني اسرائيل مع نبيهم الذي دعاهم للقتال تحت إمرة أحد الملوك الصالحين المنتجبين من قبل السماء (طالوت)، فاذا توقفنا قليلاً، و راجعنا التفاسير المختصرة للعلماء نجد انفسنا أمام دلالات ومضامين عميقة ذات صلة بواقعنا وعقيدتنا، نحن كشيعة أمير المؤمنين، عليه السلام.

فالتابوت الذي تحدثت عنه الآية، وجعلته علامة تكريم وتنزيه هذا الملك من قبل الله –تعالى- هو نفسه الذي كان عند أم موسى، عليه السلام، و وضعته فيه وألقته في اليمّ (البحر)، وقد احتفظ به بنو اسرائيل لفترات متمادية، فكانوا يتبركون به ويتخذنونه مصدراً للسكينة، ولكن عصيانهم وتمردهم على الحق ودعوات السماء، حرمهم الله منه ورفعه اليه، ثم انزله ثانية في هذه المناسبة: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ}.

⭐ إن التدبّر في القرآن الكريم عندما يكون ثقافة اجتماعية عامة، يستعيد دوره الحضاري العتيد في بناء المجتمع والانسان، و أروع فرصة لنشر هذه الثقافة؛ أيام وليالي شر رمضان المبارك

وهذا يعني أن بني اسرائيل جربوا قبلنا الغيبة؛ إن لم يكن بانسان (نبي) وإنما بشيء مقدس مثل تابوت نبي الله موسى، فقد كان سبب تغييبه عنهم؛ ابتعادهم عن شريعة السماء والاحكام والموازين الحق، وفي لحظة الانبعاث والتحفّز للقتال أنزل الله هذا التابوت تكريماً للمؤمنين في القصة المفصلة وكيف أنهم انتصروا على جالوت وجحافل العمالقة.

أوردنا هذا للمثال لا الحصر، وهناك مفردات كثيرة لأشياء و حالات وردت في الآيات المباركات في سياق الحديث عن تجارب الأمم مع انبيائهم، وحتى ما يتعلق بالسور المدنية التي تتحدث عن المجتمع الاسلامي وعن الجهاد والإنفاق، مثل؛ قضية “ضرب المرأة” المثيرة للجدل، كل هذه وغيرها لها مدخلية واسعة في فهم وإدراك ما يمكن إدراكه من المضامين والدلالات والبصائر القرآنية، فإذا لم نعرف معنى “القسط”، كيف نفهم سبب قتل الدعاة الى القسط من قبل العصاة، كما جاء في سورة آل عمران التي قرأناها في اليوم الثالث من هذا الشهر الفضيل؟ {الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

  • الخطوة الثانية: التدبّر

مما يبذله العاملون الرساليون في هذا الشهر الفضيل؛ إحياء المحافل القرآنية وجلسات التدبّر في المساجد والحسينيات بحضور ثلّة من المؤمنين في فترة ما بعد الإفطار، وهذا نحسبه من الخطوات الأساس لبناء المجتمع الايماني المتماسك والمتقدم، إنما نحتاج ايضاً؛ توسيع مساحة التدبّر لتشمل الجلسات العائلية في البيوت، وفي اللقاءات الجانبية بين الاصدقاء، وحتى أثناء العمل، خلال إثارة موضوع معين او البحث في قضية ما، فيكون استذكار القرآن الكريم وقوله في هذه القضية أو تلك، وما هي دلالاته والمقاصد التي يمكن ان تضيئ لنا الحل او البديل، أفضل بكثير مما لو استذكرنا أفكار واقوال هذا او ذاك من المعرضين للخطأ والخطل، أليس كذلك؟ إن التدبّر في القرآن الكريم عندما يكون ثقافة اجتماعية عامة، يستعيد دوره الحضاري العتيد في بناء المجتمع والانسان، و أروع فرصة لنشر هذه الثقافة؛ أيام وليالي شر رمضان المبارك، فما نسمعه في المحافل والمجالس من بصائر قرآنية لابد من ايجاد مصاديق عملية لها في حياتنا اليومية ونحولها الى إضاءات تشق أمامنا ظلمة اليأس والتشكيك الاستفهامات الحائرة.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا