ثقافة رسالية

وسائل التواصل غير التقليدية تسلب منا الهوية

في يوم من الأيام حيث كان ابني في مدرسته الابتدائية، جاءت عاملة الخدمة (الفراشة)، تبحث عن طالب اسمه مسلم، فنادت بصوت عالٍ، من منكم مسلم، رفع ابني الصغير يداه قائلا: آني مسلم وشيعي وافتخر، فعلى الرغم من طرافة الموقف إلا انه نذر خطير، لأن اجابته كانت تقليدا لأحد مشاهير وسائل التواصل، فإن قيل قديما: أخبرني من تصاحب اقول لك من أنت.

اليوم ينبغي ان نقول: “أخبرني من تتابع في وسائل التواصل، اقول لك كيف تبدو وما تلبس وكيف تتكلم”، فلا شك ولا ريب لقد اربكت طرق التواصل الحديثة كل قواعد التواصل القديمة وأدخلتنا في علاقات متنوعة الاشكال والافكار والتوجهات، بل لا يمكن ان نصف تلك الوسائل بوسائل التواصل فتعدينا فأصبحت ايصال من طرف واحد، كما هو حال الحب من طرف واحد لا يجلب إلا العذاب والسهر على تخيل المحبوب.

فإذا ألقيتَ او ألقيتِ اليوم نظرة بسيطة على من حولك في المدرسة او الجامعة او العمل او حتى عند تجوالك في الشارع بالتسوق او التنزه، تجد الشباب معظمهم بنمط واحد من حيث المظهر ففقصات الشعر واللحية تكاد تكون زيّاً موحداً لجميع الشبان، وأما الملبس فبناطيل قصيرة وبها تمزق في بعض المناطق وتيشرتات او قمصان تلتصدق على الجسد اكثر من الجلد.

⭐ يرى البعض ان الهوية في مفهومها الكلي هي: الخصائص التي يتيمز بها الأفراد والجماعات عن بعضهم البعض

 والكلام والنقاش فيغلب عليه (اسكجات) من فكاهات المقطاع المنتشرة في وسائل اللاتواصل الاجتماعي، أما على صعيد الإناث فلا تكاد تجد واحدة تبقى على ما خلقها الله عليه، فإما نفخ في الشفاه او عمل في الانف او بوتكس في الخدود او ابتسامة هوليوود، فتراهن يتشابهن في كثير من الأشياء.

صراحة هذه الظاهرة تستوقف لنتساءل ما الذي جعلنا نتشابه هكذا؟

هل فقدنا هويتنا الفردية والجماعية لتلك الوسائل غير التقليدية؟

وماهي هويتنا وكيف يمكننا ان نحافظ على تلك الهوية؟

نحاول ان في هذه الكلمات ان نستنطق تلك الاسئلة ونحاول ان نحصل من خلالها على اجابات علّها تنفعنا في مواجهة الخطر الذي يحدق بنا من كل صوب.

  • أولا: معنى الهوية:

اذا حدثت جريمة معينة في مكان ما فإن اول ما يبحث عنه الجهات التحقيقة هو أثر بصمات الاصابع في ذلك المكان، وكذلك إذا ما تمّ العثور على جثة لشخص مجهول لا يمكن التعرف على شكله، فإن الوسيلة للوصول الى معرفته تكون عن طريق فحص الحمض النووي، اذا أردت ان تؤمن قفل شاشة هاتفك فإن الكثير يلجأ الى بصمة الوجه التي تعتمد على العينين، وغير الكثير، فإذا كان الله قد خلقنا على المستوى المادي بهذا التبين والاختلاف الذي لا يختلط أبدا، فهل يا ترى يريد منا ان نتشابه ونتطاق في قالب واحد على المستوى المعنوي والأخلاق والفكري، وهو الذي قال في كتابه الكريم: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}

  • فما هي تلك الهوية؟

يرى البعض ان الهوية في مفهومها الكلي هي: الخصائص التي يتيمز بها الأفراد والجماعات عن بعضهم البعض، اي ان كل فرد يمكنه تعريف هويته الشخصية وفقا للصورة التي يخلقها عن نفسه بسلوكياته التي يجمع فيها بين الأدوار المختلفة التي يقوم بها، والتي قد يكون أحد هذه الأدوار  أكثر أهمية في نظر الفرد فذلك يختلف من شخص لأخر، نظرا لما يحمله من ثقافة ومبادئ ومن قبل ذلك ما يتبناه من عقيدة.

  • ثانيا: تكوين الهوية

تتكون الهوية ـ كما سبق وذكرنا ـ من خلال العقيدة وما يتفرع عنها من مبادئ وقيم ليشكل ذلك كله ثقافته التي تنعكس من خلال سلوكياته، إذن فتكوين الهوية يتطلب الوصول إلى الذات وفهمها، حيث يكون ذلك عن طريق القيام بمطابقة النهايات مع البدايات اي السلوك مع العقيدة، وإفراغ تلك السلوكيات الفردية في الأدوار الاجتماعية التي تكون متاحة، لذا فإن معرفة الهوية وتركيبها يعد أمراً غاية الأهمية فكما جاء في الأثر عن أمير المؤمنين، عليه السلام: “رحم الله امرء عرف قدره ولم يتعد طوره”.

  • ثالثا: الأصلي والمقلد

اليوم في عالم الصناعة البضائع الأصلية لها قصب السبق، من حيث اقبال الزبائن على اقتنائها ومن حيث الأسعار، فإنها تفوق تلك المقلدة بأضعاف مضاعفة، فاليوم لو ان اردت شراء عطر من ماركة معين، فإنه قيمت قد تتراح من 60 الى 100 دولار او أكثر حسب الحجم والنوع، فإن مقلد هذا العطر مع ما انه يحمل نفسه ويحمل نفسه الماركة والتغليف إلا ان قيمته قد تكون 2 الى 5 دولار، أتعلم لماذا لأنه مقلد، لا أصلي.

الأصلي له قيمته الخاصة والمقلد يفقد قيمته او لا قيمة له، قد يفقد الانسان هويته بحثا في تقمص هوية غيره، فيشكل اما نسخة مقلدة من غيره او نسخة مشوهة عن نفسه، وعليه لابد للإنسان ان يبحث عن هويته ويصطف في زمرة أمثاله الاصليين، لا أن يكون نسخة مقلِّدة عن غيره ويصطف في ذلك الاصطفاف يصبح تائها لا يدري من هو ولا يدري اين هو ولا يدري الى أين ينبغي الى يسير، يقول سيد الأوصياء امير المؤمنين، عليه السلام: “رحم الله امرأ عرف من أين وفي أين وإلى أين”.

ومع كل الاسف نجد اليوم ان الكثير من أبنائنا ـ من الجنسين ذكورا واناثاـ وبكل الأعمار تنازلوا عما يميزهم؛ من آراء وتصرفات وقيمة ومبادئ، بل حتى العقيدة في بعض الاحيان، وذابوا في غير المشهور وصاحب أرقام المتابعات العالية واللايكات الكثيرة عبر وسائل التواصل، فحاولوا التشابه به طلباً للقبول والانتشار والإعجاب وسيراً وراء القطيع، ناسين أن الانتشار إن كان لفضيلة فإنه يتطلب جهدا واجتهاد وعلم وعمل، إذ ان البطل الحقيقي دائما يلهو بعيداً عن الآخرين في تكوين بطولاته ولا نرى منه إلا اعتلاء منصات التتويج، وأما ان كان لرذيلة فإنه يعني السقوط والانحدار.

اذن علينا اليوم بكل جدية ان نحرّر أنفسنا وأبناءنا من سلطان وسائل التواصل وننقذ ذواتنا من الاحتضار، وألا نكون كمن عبر عنهم أمير المؤمنين، عليه السلام: “همجٌ رعاع يميلون مع كلِّ ريح، وينعقون مع كلِّ ناعق”، حتى لا نرى أبناءنا يفقدون أصالتهم ويقلدون من هب ودب، حتى لا نرى أبناءنا من دون هوية لا طعم ولا لون، مجرد غلاف زائف.

  • رابعا: الحفاظ على الهوية

إذا كانت الهوية ـ كما تقدم ـ هي ما يميزنا عن غيرنا ونختارها بأنفسنا وان تكون متوائمة مع ما نعتقده ونقبله من قيم ومبادئ ومع ما نحمله من ثقافة؛ فلا ينبغي لنا ان نتنازل عنها، بل نحافظ عليها ونطورها ونقويها فهي ليست ثابتة جامدة ممكن ان تتغير او تفقد نتيجة للكسل العقلي وتراجع الثقة في النفس والرغبة في رؤية ذواتنا في مرآة الآخرين، كأننا دولًا صغيرة تعيش على فتات الدول العظمى!

الهوية يجب ان تكون لنا كالبيت الخاص نرفض السماح بالإقامة فيه لمن ينازعنا ملكيته، ويتحول ولو بعد حين للسيد المتحكم ونحن بمثابة العبيد المطيع، فلنحافظ على تفرّد هويتنا عند التفاعل عبر وسائل التواصل، ولا نجامل ولا نهادن، ونقبل أو نروج ما يخالف هذه الهوية، وأن يكون الإنسان نفسه بعيدا عن “اللايكات” وبلا اهتمام بعدد المتابعين.

⭐ تتكون الهوية من خلال العقيدة وما يتفرع عنها من مبادئ وقيم ليشكل ذلك كله ثقافته التي تنعكس من خلال سلوكياته

وحتى نتمكن من ذلك لابد من اتباع خطوات قد لا تكون هي الوحيدة الفريدة إلا انني أراها هي الأهم:

1ـ الاهتمام بمصادرنا الثقافية: الغزو الثقافي نجده قد غيّر في ملامحنا الثقافية، بل انشغالنا بذلك الصراع قد اشغلنا عن مصادرنا الثقافية، مما أدى الى صعود جيل قد أضاعت هويته الحقيقية، وعليه لابد ان نرجع الى تلك المصادر النقية، فنحن كمسلمون موالون لدينا أهم مصدرين وهما القرآن الكريم وسيرة النبي وأهل بيته، صلوات الله عليهم، التي لابد ان نوافق سلوكنا مع تلك المصادر القيمة ونبتعد كل ما يتعارض معها ونغربل ثقافتنا بذلك الغربال القيم.

2ـ الاهتمام بالقدوات: مع اننا ندعو الى اكتشاف الذات وتحقيق الهوية الفردية إلا ان ذلك لا ينفي وجود تأثير الآخرين علينا واننا لا نتأثر، بل العكس، فقد اثبتت الدراسات بأننا نتأثر بمن نتابع شئنا أم أبينا لكن ما ينبغي ان نبتعد عنه هو التقليد الأعمى، هذا من جانب ومن جانب آخر فإن القدوة التي نختارها لابد ان تكون متوائم مع مصادرنا الثقافية وتدعونا بذات الاتجاه، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام: “من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبد إبليس”.

3ـ الانتماء: على الرغم من اننا اتفقنا على ان الفرد ينبغي ان يكون مستقلاً لا يقبل التجزئة، ويجب ألا يسمح بتجزئة هويته وبعثرتها ولملمة أشلائها عبر ما تلقيه في وجهه وسائل التواصل من أساليب حياة، وأفكار تختلف مع ما يتوق إليه في أعماقه كنسخة لا تتكرر من غيره، بيد ان دراسات علم الاجتماع تؤكد بأن هذا الفرد هو عبارة عن كائن اجتماعي، فالهوية الاجتماعية للفرد تؤثر بشكل واضح على الهوية الذاتية للفرد، حيث تتشكل هذه الهوية على أساس الأفراد المحيطين بنا، وترتبط هذه الهوية بالدور الذي  يقوم به الفرد في هذا المجتمع، فلابد ان ينتمي الى جماعة يعيش معهما ويتعايش، فبعد ان حددنا هويتنا وعرفنا ذواتنا الشخصية لابد ان نحصن تلك الهوية بتواجدها ضمن الشخصيات القريبة منها فكرياً وثقافيا لتكوين حصن يتواصون من خلاله بالحق الذي آمنوا به ويتواصوا بالصبر عند مواجهة اغراءات التغيير الفكري والغزو الثقافي.

ونخلص من كل ما تقدم بأننا نعرّض أنفسنا وأبناءنا الى ضغط نفسي هائل كلما فتحنا مجال المقارنة بين الحياة الحقيقة والحياة المزيفة التي يعرضها إلينا مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي الذين عادة ما يكونوا واجهات لشركات وماركات معينة،  تحث على الاستهلاك في أسلوب حياتهم وسفراتهم وذوقهم، ولا يعني اطلاقا انهم يعيشون أفضل من حياتنا فإن ما يبثونه هو عملهم وقد حدث ان انتقد الكثير منهم أسلوبهم الذي يعيشونه، فلا يوجد ما يجبرنا على تقليد غيرنا أو الاقتداء بهم، ويجب أن تكون تصرفاتنا نابعة من ثقة في قدراتنا وثقافتنا وقناعة بثوابتها لا تقليداً للآخرين.

عن المؤلف

محمد جواد منذور

اترك تعليقا