أكثر ما يجذب التلاميذ إلى الدورات الصيفيّة؛ الحالة التطوعيّة، والتفاعليّة الذاتية، والمرونة في تعامل القائمين على المشروع، إضافةً إلى أجواء الانفتاح والتنوّع في المنهج، وهذا ما يميّز الدورة الصيفيّة عن المدرسة، فالمدرسة مع إيجابياتها وأهميّتها في الانضباط والمنهج العلمي وغيرها، بيد أنّ الواقع الموجود يكشف عن ضغوطاتٍ نفسيّةٍ جمّة، وتكريس حالة الروتين في الدراسة، والتفكير أبداً بالنجاح والدرجات العالية مهما كانت الوسيلة، والأخطر من كلّ ذلك؛ تفضيل التعليم على التربية.
ولله الحمد، تنبّهت الأوساط الإسلاميّة إلى هذا الجانب التربوي، والتعليمي، والثقيفي في معظم بلادنا الإسلاميّة، ولاسيّما في العراق، وراحت المؤسسات الثقافيّة من حوزاتٍ علميّةٍ وجوامعَ ومساجد وحسينياتٍ ترعى وتقيم دوراتٍ صيفيّة لاستثمار أيّام العطلة المدرسيّة في برامج تفيد الطالب، من مختلف الأعمار، في مستواه العلمي والثقافي.
التبنّي الواعي، والتفاعل الكبير، يضعنا أمام مسؤوليّةٍ عظيمة لاغتنام فرصةٍ ذهبيّةٍ للتنمية والبناء لأهمّ شريحةٍ في المجتمع، والتي تعوّل عليها البلدان والأمم في ضمان مستقبلها في المجالات كافّة، وذلك من خلال تسليط الضوء على جملة من الاستحقاقات في المجالين التربوي والتعليمي في هذه الدورات:
-
أولاً ـ في المجال التربوي:
يكفي أن نعرف أن الطالب في المرحلة الابتدائية، أو الثانوية، بل حتى الدورات الخاصّة بطلبة الجامعة، سيتفاجأ بما لم يعهده في برنامجه الدراسي ـ الحكومي، إذ إن الجانب التربوي لا تُوجد له مساحةٌ في المناهج، لأسباب لسنا بصدد الخوض فيها، وربما يكون بعضها مبررةً لكثافة الأعداد ومحدوديّة المساحة في المدارس، وتداخل أمور اجتماعية وأخلاقية، مع الإقرارِ بوجود مساعٍ جادّة ومشكورة من لدن عديدِ المعلّمين والمدرسين بنشر الفضيلة والأخلاق والآداب بين التلاميذ.
أما في الدورات الصيفيّة، فالأمرُ مختلفٌ تماماً، إذ إنّ المسؤوليّة الشرعيّة والاجتماعية والأخلاقية تفرض علينا إعداد مناهج مركّزة للتعريف بأهميّة الخُلق الحسن في الحياة الاجتماعية، ودور الآداب في تقويم شخصيّة الإنسان منذ صغره، ومدخليّتِها المباشرة في تكوين الشخصيّة المفيدة والبناءة، من أبسط فقرة؛ “السلام عليكم”، ومروراً باحترام الكبير والنظير، ثم طريقة التعامل مع الأشياء، سواء كانت جدرانٌ، أو أثاثٌ، أو موادُ غذائيّةٍ بما نطلق عليها في المصطلح الديني “النعمة”، وأخيراً وليس آخراً؛ التربية الدينية، والوقوف بوعيٍ عند مواطن الشبهة في الحديث والنظر والسمع، وحتّى طريقة التعامل مع الكتاب المجيد، وعموم القيم والمفاهيم العليا لدينا؛ مثل الصدق والأمانة والتعاون والتواضع وغيرها.
ثانياً ـ في المجال التعليمي:
يفخر المشرفون على الدورات الصيفيّة بمنطلقاتهم الدينيّة والحضاريّة، فهم يستندون إلى تراث علميّ وتربوي وأخلاقي عظيم، في مقدمته؛ القرآن الكريم، وما يحيط به من تفاسير، ثم نهج البلاغة، و إرثٌ عظيم من السيرة المطهّرة للمعصومين، عليهم السلام، والروايات التاريخية، وسيرة الصالحين وتجارب الماضين، وإلى جانب ذلك كلّه؛ المنهج التعليمي المتكامل، وهو الأهمّ، حيث التطبيق العملي على أرض الواقع، وهو ما كان يحرص عليه المعصومون، عليهم السلام، وإلّا كان القرآن الكريم موجوداً في عهد الرسول الأكرم، صلّى الله عليه وآله، ثم في عهد أمير المؤمنين، وفي عهد الأئمّة، عليهم جميعاً سلامُ الله، ولكن؛ حصل ما حصل من مظالمٍ وانحرافاتٍ خطيرة.
لذا؛ يجدر بنا، ولتحقيق المزيد من النجاح في هذه الدورات الصيفيّة واستثمار هذه الفرصة، الالتفاتُ إلى جملة من الأمور ، نذكر منها:
1- الفهم وليس الحفظ فقط :
نعود إلى المقارنة بين هذه الدورات والمدارس الحكوميّة، فمن المشاكل المنهجيّة التي يعاني منها طلّابُ اليوم؛ الحثّ على الحفظ (الدرخ) وليس الفهم، مع أهميّة الحفظ من الناحية العلميّة، إنّما بعضُ المواد والأمور بحاجة إلى فهم واستيعاب ذهني ونفسي، في مقدّمتها؛ القرآن الكريم، وأحاديث أهل البيت، عليهم السلام، فالآيات والروايات يجب أن لا تطرق الآذان فقط، وإنّما تدخل شِغافَ القلوب، وتترك بصمتَها على السلوك وطريقة التفكير.
من الجيّد والمفيد الحثُّ على حفظ القرآن الكريم، كلِّه، أو أجزاءٍ منه، والأحاديث الشريفة أيضاً، وإجراءِ المسابقات لدفع الطلّابِ على التنافس أيّهما يحفظ أكثرَ، ورصدِ الجوائز والمحفّزات لذلك، بيد أنّ المفيد جدّاً إلى جانب هذا، استيعاب معانٍ ودلالات ما يسمعونه من آيات و روايات، لاسيّما ما يتعلق بالجانب التربوي، أو التشريعي، مثل؛ الصلاة والصيام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبيان العلل في بعض التشريعات، وبيان فوائد البعض الآخر، بقدر الإمكان، وحسب القدرة الاستيعابيّة لأذهان الطلّاب.
2- المصاديق العمليّة على أرض الواقع :
أين يوجد الكذب؟ وأين يوجد الصدق؟ وكيف نعرف الأمينَ من غيره؟ وما هي فوائد احترام الآخرين، وما هي نتائج عدم وجودها؟
هذه الأسئلةُ وغيرها كثير، بالإمكان تسليط الضوءِ عليها من خلال مصاديق وافرة من الواقع الاجتماعي الذي نعيشه، لأن هذه الدورات تُعدّ بالحقيقة؛ محاولةٌ إصلاحيّة لمظاهر سيّئة وخاطئة في واقعنا، ربما أبرزُها؛ النظافة، وغضّ النظر عمّا لا يحِلّ، وعدم التلصّص، ثم تبيان الآثار الملموسة للعادات السيّئة، مثل الكذب، والخيانة، وعدم الاهتمام بالنظافة والطهارة، وغيرها كثيرٌ.
3- البدائل إلى جانب النواهي :
ربما يسمع الطفل والمراهق والشاب عبارات النهي والزجر من هذا الفعل وذاك القول في حياته اليومية، من الأسرة والمدرسة، والأقارب والأصدقاء، بيد أن القائمين على الدورات الصيفيّة تكون لهم الفسحةُ الزمنيّة والأجواء المساعدة لتبيان البديل الصحيح لما هو خطأٌ، مثال ذلك: الألعاب الألكترونيّة الضارّة، فالكلامُ عن حرمتها ـ مثلاً ـ أو تهديدها للسلامة الذهنيّة والبدنية، لابدّ أن يكون مصحوباً ببديلٍ آخر، كأن تكون لعبةً أخرى أقلّ ضرراً، أو ذات فائدةٍ لتكون الخيارَ المفضّل للطفل، لا أن يكون الخطاب في اتّجاه واحد، فهذا له مردودٌ غير حسنٍ في نتائج الدورات، فالطفلُ سيكون في حيرة من أمره، بين الالتزام بالنواهي، وبين رغباته وميوله الطبيعيّة نحو اللعب والترفيه النفسي.
ومن أرقى الأفكار الممكنُ تطبيقها: “يومٌ مع الكتابِ لا مع الموبايل”، والحثُّ على قراءة الكتاب، والمطالعة مع هدية، ثمّ التحدّث عمّا قرأه.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار قلّة المؤلّفات الخاصّة بشريحة الأطفال في أجوائنا الثقافيّة، بيد أن مسؤوليّة القائمين على دورات ثقافيّة كهذه؛ توفير عناوين منتخبة بنسخ متعدّدة مما ينشر في البلاد العربية، ذات محتوى علمي، ومعرفي، وأدبي. مثل: قصص الأطفال، والكائنات الحيّة، والبيئة، وغيرها.
4- التجارب والعبر:
هذه الفقرة لا تأتي ضمن مادة دراسية خاصة، بقدر ما تنساب على الطلاب خلال الأحاديث والمحاضرات، وحتى الدروسِ، وهو أكثر ما يحتاجه الصغار من الناحية الذهنيّة، فهي تساعد على صياغة شخصيّتهم بما يمكّنهم من تسلّق مراقي النجاح بخطى ثابتةٍ بالاستفادة مما مضى عليه الناجحون حديثاً وقديماً.
ومن الفوائد الملموسة، تطبُّع الطفل والشاب على المشاركة الفكرية مع الآخرين، والتشاور، وتقليب وجوه الرأي، وعدم التقوقع في دائرة الذات بما يخلق روح الأنانية والغرور والكِبَر، وهي من معوقات تنمية الطفل وتعلمه وتطوره.
5- احترام العقول وإثارتها :
من المفيد جدّاً معرفة أنّ طفل اليوم، ليس الطفل الذي كان قبل عشرةِ سنوات، ومن كان قبل عشرة سنوات، ليس كمن عاش قبل عشرين عاماً وهكذا… بحكم الظروف الاجتماعيّة والتطورات السياسية التي تترك أثرَها السريع والمباشر على مدارك الأطفال ومستويات استيعابهم، فمن أبسط الفوارق في مستويات التفكير، ما كان عليه في السابق بالنسبة لطموحات الطلبة التي كانت محصورةٌ بالدرجة الأولى بين الطبيب والمهندس، أمّا الآن فقد دخل ضابط الشرطة، أو ضابط الجيش ضمن هذه الطموحات، والسببُ في ذلك، استحكام عامل القوّةِ في الواقع الاجتماعي والسياسي، ليس في العراق، فقط، وإنّما في سائر بلادنا الإسلاميّة، إلى جانب خوض الطفل غمار العمل في مجالاتِ تفوق قدراته البدنية، بسبب الحاجة والفقر والبطالة، جعلَته يكتشف حقائقاً مريرة لم تكن تعنيه في السابق، مثل: الفساد الإداري، والتبعيّة للخارج، وقضايا كبرى مثل: التكفير والإرهاب وغيرها، خلقت لديه ذهنيّةٌ صاخبة مليئة بالحقائق، والمعلومات، والتناقضات.
وفي ظلّ أوضاعٍ كهذه، فإنّ النظر إلى الأولاد بشكلٍ عام، يجب أن يكون بوعي تامّ، واحترام، ليس فقط لمستوى معارفهم، وإنّما لما عانوه من ضغوطات الحياة التي منحتهم هذه المعارف والتجارب، فعندما نتكلم عن التعاون والعدل والأخلاق وأشباهها، علينا الانتباه إلى أنّ الواقع متنكّرٌ بشكل كبير لهذه المفاهيم، وإن الحديث عنها يُفترض أن يكون من باب العمل لمعالجة نقائضها؛ ذلك من خلال إثارة روح المسؤوليّة فيهم، واستجلاء الرأي بما يمكن فعلُه على صعيد الأسرة، ثم المحيط السكني والمدرسة والمجتمع بأسره، بما يعني إيجاد مصاديق عملية لهذه المفاهيم التي نبغي نشرها وتكريسها في المجتمع.
ولا شكّ أن القائمين على الدورات الصيفية قد أعدُّوا مناهجاً متكاملةً وحيويّة لفائدة الأطفال والفتيان، وما مرّ ليس سوى تذكير بالمطلوب والواجب، وكلّما كثرت هذه الدورات في مدننا، وحتّى بلادنا، رأينا أثرَها الايجابي السريع على الواقع أكثر.