ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (9) المجتمع يتطور بكلمة ما هي؟

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “إذا وصلت اليكم اطراف النعم فلا تنفروا اقصاها بقلة الشكر”. (نهج البلاغة/ قصار الحِكم).

  • المجتمعات على قسمين:
  •  مجتمع يقدر أعمال الناس.
  • مجتمع لا يقدرها.

المجتمع الذي يقدر انجازات وكفاءات الافراد ويعطي لكل عمل قيمته، هذا مجتمع حضاري، لأنه مجتمع ينمي الكفاءات، ويشجع الصالحين على اعمالهم، أما المجتمع الذي لا يقدّر عملا فهو يُميته، ألا ترى أن كثيرين يحجمون عن الانجاز ويعبرون عن ذلك: ومن يقدّر؟ وهناك كثيرين يحجمون عن قول الحق بدعوى: مَن يسمع مزاميرك يا داود؟

📌 المجتمع الذي يقدر انجازات وكفاءات الافراد ويعطي لكل عمل قيمته، هذا مجتمع حضاري، لأنه مجتمع ينمي الكفاءات، ويشجع الصالحين على اعمالهم

المجتمع الحي والحضاري هو الذي يَشيع فيه الشكر؛ والشكر لا تعني كلمة تقال، حينما يكون المجتمع مجتمعا شاكرا، فهو يتجه نحو النمو، والتطوّر، وذلك بإعطاء لكل ذي حق حقه، وينمي في كل إنسان إرادة الخير والصالحات.

  • ما هو الشكر؟

الشكر تصور النعمة واظهارها، ويقابل الشكر في القرآن الكريم الكفر، يقول الله ـ تعالى ـ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، فإما أن يكون المجتمع شاكراً، فإن الله يزيده في النعمة، وإلا فهو مجتمع كافر.

والكفر هنا لا يعني الكفر العقائدي، بل المقصود هو ان المجتمع لا يقدر النعمة ويكفر بها، سواء كانت هذه النعمة هي عبارة عن حصول الإنسان على مال، فلا يشكر ربه، أو حصول المجتمع على صاحب كفاءات فلا ينميها ويشجعها.

حينما يقيّض الله للمجتمع إنسانا يقوده الى طريق الصلاح، فلا يشكره، فإن هذا المجتمع قد كفر بنعمة من نعم الله، فمثله كالمجتمع الذي لم يقدّر الإمام الحسين، عليه السلام، في وقته، وابتُلي بزيد، وكل مجتمع لا يقدّر الرجال الصالحين لابد أن يُبتلى بالرجال الفاسقين.

تولد في المجتمعات رجال صالحة، كما تولد فيها أيضا جماعات فاسقة، فإذا كان المجتمع في حالة الشكر، فهو ينمي الصالحين، ومن ثم يحصر الفاسقين في زاوية محدودة.

  • مراحل الشكر

المرحلة الأولى: الشكر بالقلب

الشكر قد يكون بالقلب، والنعمة التي يحصل عليها الانسان لا يظن أنه صاحبها، الخيرات من الله والشرور من أنفسنا، فلا يقول أحد: هذا كدُّ يميني، وعرق جبيني، فلربما كدّ اليمين لا يعطي صاحبه إلا الندم، وعرق الجبين ربما لا يجلب إلا النقمة، فلا يظن أحد أن خيراً يحصل عليه في هذه الأرض هو من ذاته، فلم يولد أحد وفي يده صكٌ بالخيرات والصالحات، ولم يولد وفي يديه الملايين، بل ولد حافيا عاريا، وغير مختون، وكما جاء الإنسان الى الدنيا يرحل عنها.

فحقيقة الإنسان إذاً، انه لا يمتلك شيئا، فإذا حصل على نعمة في قلبه، فعليه أن يعرف أنها من الله، والمرحلة الأولى من الشكر، هي مرحلة القلب.

المرحلة الثانية: الشكر باللسان، وهي أن يقول الإنسان في كلامه: “شكراً” سواء فيما يرتبط بالرب أو ما يرتبط بعباد الله.

المرحلة الثالثة: الشكر بالعمل.

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “شكر كل نعمة الورع عما حرّم الله”. في الواقع وبوحي من الإنسانية ما من إنسان يقدّم لك شيئا إلا ويستحق منك “شكرا” بحجم وقدر ذلك الشيء، إذا لم تشكر مَن يُحسن إليك فإنك تخسر كل شيء، والمجتمع يخسرك، إذا قدم لك إنسانا كوباً من الماء فإنه يستحق شكراً بقدر الكوب المقدم، ولا شك أن المجتمع سيؤنب من قُدم له كوبا من الماء او الشاي، ولم يقل لمن قدَّم إليه: شكراً.

📌 الشكرُ عطاء روحي في مقابل عطاء مادي؛ ف حينما يتبرع رجل من ماله في سبيل الله و يشكره الناس فإنهم يعطونه حافزاً معنوياً بمقدار عطيته المادية، وهذا جانب الشكر من قيمته الحضارية والاجتماعية.

طبيعة الانسان تدعوه الى شكر كل إحسان، وبمقدار الإحسان يكون مقدار الشكر، سواء كان بالقلب، أو باللسان، او بالعمل.

الشكرُ عطاء روحي في مقابل عطاء مادي؛ فحينما يتبرع رجل من ماله في سبيل الله و يشكره الناس فإنهم يعطونه حافزاً معنوياً بمقدار عطيته المادية، وهذا جانب الشكر من قيمته الحضارية والاجتماعية.

من جانب آخر ربط الله ـ عز وجل ـ المزيد من النعم؛ أي جعل زيادة النعمة واستمراها الشكر عليها، فحين يعطي الله للإنسان كفاءة ولا يستخدمها فقد تضيع منه هذا ما يرتبط بالكفاءات.

بالشكر تدوم النعم حتى لو حسبنا الناحية المادية (الميكانيكية) للمجتمع فيما يرتبط بالشكر؛ فواقعا سنّة الحياة قائمة على استمرار النعمة، والمنصب، والكفاءة، واستمرار ما يحصل عليه الإنسان إذا اعطاه لله، هذا من الناحية المادية البحتة، فكيف بأن الله ـ تعالى ـ والانبياء، والائمة، بلغوا الناس أن الشكر زيادة في النِعم، وذلك مصداق قوله ـ تعالى ـ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}.

رئيس الجمهورية حينما يعمل في خدمة المستضعفين، فإنهم سينتخبونه مرةً أخرى، ويكونون سنداً له، لكن هناك رؤسا انتخبهم الناس، و بعد مضي عام ثاروا عليهم وخلوعوهم، فمثل هكذا رئيس لم يشكر نعمة الرئاسة، وكلٌّ بحجمه، فتارة يكون رئيس دولة، أو وزير، أو موظف في دائرة معينة يتباطأ في انجاز معاملات الناس، ولا يؤدي حق الله، فيظن أن هذا المنصب صكٌ حصل عليه من رحم أمه، هذا سرعان ما يفقد منصبه.

يقول رسول الله، صلى الله عليه وآله: “أحسنوا مجاورة النعم لا تملوها ولا تنفروها فإنها قلما نفرت من قوم فعادت إليهم”، فالفرص في الحياة ليست مستمرة، البعض قد تأتيه فكرة ايجابية، لكنه لا يسجلها فتضيع منه، ذلك أن فرص الحياة مرة واحدة، وإذا اراد الانسان استمراها فليتوجها اليها بقبله ولسانه وعمله.

عن الإمام الصادق عليه السلام : “مكتوب في التوراة: أُشكُر مَن أنعَمَ عَليك وأنعم على مَن شَكَرَك فإنه لا زوال للنَّعماءِ إذا شُكرَت ولا بَقاء لها إذا كُفرت الشُّكرُ زيادة في النعم وأمانٌ من الغِيَرِ”. (بحار الأنوار:87 / 241 / 25). ويقول الإمام الجواد، عليه السلام: نعمة لا تُشكر كسيئة لا تُغفر”.

إن استمرار النعم مع الإنسان هو بشكرها، والنعم كثيرة في حياتنا، ولربما أتت على هيأة فرصة، أو فكرة، أو مال وما أشبه، ولضمان استمرارها علينا ان نشكرها، وكل نعمة تستوجب شكراً خاصا بها، فنعمة العلم نشره، ونعمة المال بذله في سبيل والمستضعفين، وهكذا في بقية النِعم الأخرى.


  • مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرسي( حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا