غير مصنف

إلغاء المسافة بين الأعمال والأقوال

إن الصدق هو علامة وفضيلة المؤمن البارزة، إذ تراه يصدق مع نفسه، ويصدق مع ربه، ويصدق مع الناس؛ والصدق بالنسبة إليه جزءٌ لا يتجزّأ من صميم وجوده …

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} (الاحزاب/23)
إن الصدق هو علامة وفضيلة المؤمن البارزة، إذ تراه يصدق مع نفسه، ويصدق مع ربه، ويصدق مع الناس؛ والصدق بالنسبة إليه جزءٌ لا يتجزّأ من صميم وجوده وكيانه، فلا يعيش الازدواجية والنفاق والثنائية؛ فما يقوله هو، ما يؤمن به، وما يفعله هو، ما يؤمن به، وما يؤمن به يقوله ويفعله، وليست هناك أيّة مسافة بينه وبين الواقع الخارجي، فما يقوله للآخرين هو نفسه الذي يقوله لربه، وما يفعله، هو الذي يرتاح إليه ضميره في الدنيا، ولن يخجل منه لدى لقائه ربَّه في يوم القيامة، فتراه يعيش في داخله حالةً رائعة من الاستواء والاستقرار والتوازن والاطمئنان.
وفي شهر رمضان المبارك تسنح الفرصة بشكل واسع إلى السمو بالنفس إلى هذا المستوى الرائع المشار إليه، وهو تضييق المسافة وردم الهوة بين الأعمال والأقوال.
ثم إن الإنسان ملزم بأن يتعرف على موقع قدمه، وأين ينبغي له أن يضعه، فإذا أراد التعهد لنفسه أو لربه أو للآخرين عليه -وقبل كل شيء- أن يحدّد قابلياته وإمكانياته، لئلّا ينتهي به الأمر إلى أن يكون من الكاذبين -والعياذ بالله-.
فالعهد والعقد والوعد، ليس إلاّ كلمة تخرج من فم الإنسان، فيكون لها أسيراً، لأنها بمثابة الوجه الآخر لشخصيته وذمّته، ومستوى احترامه.
ولمّا كان الإنسان المؤمن بطبيعته كائناً كريماً محترماً، فلا يسعه -والحال هذه- إلاّ أن يضفي على نفسه المزيد من الاحترام، وأن يكنّ لربه وللناس الاحترام، فيكون صادقاً معهم في كل مكان وزمان؛ على النقيض من حالة النفاق والازدواجية التي تجبر المصاب بها على نقض العهد والوعد، وعدم احترام الآخرين ونفسه، فتراه قد يعد أولاده -مثلاً- مرة ومرتين وثلاث مرات، ولكنه لا يفي بما يعدهم، حتى يفقد أولاده الثقة به، وبالنتيجة؛ يكون بسيرته هذه، قد اقتلع لُبنة مهمة للغاية في بناء الأسرة، وهي الثقة، ثم دفعها نحو الهاوية.
وربما يحدث أن يتعهد أمام نفسه بالتوبة الى ربه، ولكنه سرعان ما يفرّ على وجهه نتيجة عدم احترامه لنفسه.
وفي آية مباركة يعاتب الله -سبحانه- بعض المؤمنين الذين لمّا يطهّروا ما قد يصيب أنفسهم بعد، أو كأنه يرسم للمؤمنين خط الإيمان القويم، فيقول: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}. (سورة الصف، الآية 2-3) بمعنى أن الذي يقول كلاماً ويتعهد بعهدٍ، ثم لا يقف عند كلامه وعهده، ممقوتٌ ومذموم وغير مُحترم، وهو الذي لا يحترم نفسه، وعليه أن يستعد لعدم احترام ربه والآخرين له.
إذن؛ فضيلة الصدق صفة أساسية في الإنسان المؤمن، وهي تشمل جميع أبعاد حياته تقريباً، وهو إذا ما عاش هذه الحالة الإيجابية؛ عاش راحة نفسية، في حين إن المدمن على الكذب من شأنه الخوف من ذياع حقيقته ونفاقه الخفيين، فلا يجد لنفسه راحة أو استقرار.
إن شهر رمضان الكريم عبارة عن دعوة إلى مراجعة الذات، والاستفادة من القدرة التي وهبها الله تبارك وتعالى إلى الإنسان، والمتمثلة في صناعة الحياة وصياغة النفس باستمرار، لأنه الكائن الوحيد بين المخلوقات القادر على إعادة ترميم شخصيته وذاته؛ فالكاذب بإمكانه أن يكون صادقاً، والصادق أيضاً بوسعه أن يتحول إلى كاذب.
وشهر رمضان المبارك، وما يمتاز به من أجواء وعوامل روحية وأخلاقية، يعد فرصة ثمينة سانحة أمام المؤمنين، لكي يضاعفوا من تخلّقهم بأخلاق الله، وإن من أخلاق الله كلمة الصدق والوفاء.
————————-
* مقتبس من كتاب: أحاديث رمضانية، لسماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا