فکر و تنمیة

وسط بهرجة الحاضر .. لماذا نحنُّ إلى الماضي البسيط؟

ايام قد خلت وسنون مضت لكننا لازلنا يعود بنا الحنين اليها رغم كونها لم تكن مريحة بالمرة، فقحطها ارهق العباد وعدم توافر مستلزمات العيش الرغيد جعلهم متأخرين في كل شيء، والعجيب أننا نحنّوا اليها لأنها تحمل طابع الامن النفسي والسكينة وتمنحنا الراحة النفسية لكون الجميع فيها متحابين ويجمعهم الوئام والبساطة.

فرغم كوننا اليوم نسكن البيوت ذات الطراز الحديث، ونركب السيارات الفارهة، وبين ايدينا احدث التكنلوجيا مما يدل على التحسن في الوضع الاقتصادي، إلا أننا افتقدنا جماعيتنا وأصبحنا نعيش الفردية المقيتة التي  استلبت منا كثيراً من امتيازات أيامنا الأولى.

 الحنين الى الماضي ليست ظاهرة حديثة أو سلوكية مستجدة، بل هي رغبة العيش بروح الامس وبحداثة اليوم، لان ما مضى يحمل ذكريات تغنى فيها الشعراء والكتاب، لكونها تثير في النفوس مشاعر متداخلة بين الالم ومبين السعادة واحياناً نصل الى الندم.

يقولون علماء النفس؛ ان الحنين الى الماضي هو عبارة عن آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية، ولتحسين المزاج خاصة عندما نواجه صعوبات في التكيف وعند الشعور بالوحدة

يقولون علماء النفس؛ ان الحنين الى الماضي هو عبارة عن آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية، ولتحسين المزاج خاصة عندما نواجه صعوبات في التكيف وعند الشعور بالوحدة، وهم يرون أنه مهم جداً للصحة النفسية والعقلية، لكونه يذهب بالعقل الانساني في نزهة وسط حدائق الماضي، وهو أسلوب ناجح في محاربة الاكتئاب وقتيا ويعزز الثقة بالنفس والنضج الاجتماعي.

يتباين الناس في طريقة تقيمهم لماضيهم، فيراه البعض جميلاً والبعض الآخر قد يجد في استرجاعه الألم والحرمان، وذلك يعتمد على التجارب الشخصية لكل واحد منا، والحقيقة احياناً نمارس في استرجاعنا لذكريات الماضي بعض أخطاء التفكير؛ ومنها أننا نفكر بانتقائية بمعنى انتقاء الإيجابيات وتجاهل السلبيات، والتعميم الزائد والمبالغة، أو استيعاب شيئا وتصويره اعتماداً على جزء منه وإهمال الباقي.

 ربما يكون الحنين الى الماضي لحنيينا لأشخاص فقدناهم، أو اماكن لنا فيها ذكريات، أو طفولة فقيرة لكنها غير معقدة، فالحنين يكمن في النزوع إلى بساطة الحياة وإلى التفاصيل الصغيرة، ألا ترون ان التعقيد غلب على معظم تفاصيل حياتنا؛ فغابت ربما العفوية ومعها البساطة.

من جانب آخر قد يكون الحنين هو انعكاسا لخوفنا من السرعة التي تمر بها ايامنا وليالينا ونحن لازلنا لم نحقق ما نريد بسبب التعقيد ايضاً، فما كان بالأمس يقضي الحاجة وبرضا وقناعة اصبح اليوم غير مقنع، أو رغبة في العودة إلى هذه الأزمان والأماكن والمراحل فنعيشها كما يجب أن تكون، فما الذي يجعلنا نستشعر جماليات الأشياء بعد انقضائها أكثر من استشعارها أثناء اللحظة وفي زمانها ومكانها؟.

احيانا نجد انفسنا مشتاقين الى امكان لم نزرها، أو نتعرف عليها تعرف واقعي، ولعل هذا الاشتياق هو لصورة ذهنية لما نحلم أن نعشيه، أو هو انطباعات لإحداث واماكن رأيناها في فيلم أو قرأناه في رواية جسدت آمالنا وأحلامنا، يعبر عنها (كارسون مكولارس) بقوله: “يمتلك البعض الكثير من الحنين للأماكن التي لا يعرفونها مطلقاً”.

سلبيات الحنين الى الماضي:

ورغم كون الحنين إيجابي ويمدنا بسعادة ولو مؤقتة غير ان خطورته تمكن في امكانية إدمان استرجاع ذكريات الماضي، كما قد تدفع المبالغة باستخدام الحيل الدفاعية النفسية؛ مثل النكوص الذي يعني الرغبة في العودة الى مراحل عمرية سابقة وممارسة سلوكيات لا تتناسب مع العمر الحالي، وأحلام اليقظة، والإنكار؛ مثل إنكار موت عزيز، أو إنكار التعرض لتجربة مريرة.

رغم كون الحنين إيجابي ويمدنا بسعادة ولو مؤقتة غير ان خطورته تمكن في امكانية إدمان استرجاع ذكريات الماضي، كما قد تدفع المبالغة باستخدام الحيل الدفاعية النفسية

هنا أود الاشارة الى ان اعتماد الفرد على الوسائل النفسية الدفاعية للتخلص من التوتر والألم النفسي وفي البحث عن السعادة بشكل متكرر ودائم، ربما يعيق نموه فيصبح الانسحاب من الحاضر أسلوب حياة، ويصبح الفرد عاجزا عن اتخاذ القرارات الصحيحة كلما واجهته تحديات.

ماذا لو علق الانسان بماضيه؟

يشير علم النفس الى ان العودة الى الماضي في جميع التفاصيل الجميلة من شأنه ان يسهم في تجميل رؤية الواقع أو على الأقل التكيف معه، لكن لو علقنا بالماضي كليا فقد يعني ذلك أننا ننكر الحاضر وكأن الزمن توقف عند الماضي، أو أصبح لدينا ثبات نفسي بمعنى التوقف عن النمو النفسي بداعي قلة الاشباع أو فرطه لذا نرى ان الكثير من الناس يصعب عليهم العيش في الحاضر وربما ينزون عن بيئتهم، وهذا ما يجعلهم يشعرون بالغربة والوحدة ولو كانوا محاطين بالآخرين من حولهم سيما كبار العمر فهم عادة ما يفضلون العودة الى زمنهم كما يصفونه.

في الختام نقول ان الافادة من تجارب الماضي وتنشيط النفس البشرية امر ممدوح ولا ضرر فيه بل انه يحوي الكثير من الايجابيات، ومن بينها ما ذكرناه اعلاه، لكن يجب الموازنة والابتعاد عن ارتداء جلباب الماضي والتعايش مع الحاضر وتقبله لئلا نغرق ونضل الطريق.

عن المؤلف

عزيز ملا هذال/ ماجستير علم النفس

اترك تعليقا