“اللهم صل على محمد وآل محمد وَاسْمَعْ دُعائي اِذا دَعَوْتُكَ، وَاْسمَعْ نِدائي اِذا نادَيْتُكَ، وَاَقْبِلْ عَليَّ اِذا ناجَيْتُكَ”.
يعطف أمير المؤمنين، عليه السلام، على الصلاة على النبي وآله، بطلب قد يكون عجيباً؟! فيقول: “واسمع دعائي اذا دعوتك”.
قد يتبادر الى الذهن سؤال، لماذا يطلب الإمام في بداية الدعاء أن يسمع الله له هذا الدعاء؟ هل يمكن للرب السميع ان لا يسمع؟!
نعم؛ قد لا يُسمع دعاء الإنسان، وكثيراً ما لا يسمع الدعاء، فدون وصول الدعاء الى مراتب الإستجابة، ثمة مراحل عديدة ربما نشير إليها، وكم من دعاء لا يُسمع، ألم نقرأ في الدعاء المأثور: “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن صلاة لا ترفع، ومن دعاء لا يسمع”، ولذلك فإن أول طلب من الإمام، عليه السلام، في هذا الدعاء هو فتح الخط!
ونظير ذلك نجده في دعاء الإفتتاح وفي غيره فنقرأ: “فاسمع يا سميع، مدحتي”.
تُرى، إذا كنت تريد أن تعتذر لأحدهم، وكان سيداً قد أسأت اليه، فإن أول ما تطلبه منه هو أن يستمع إليك، مع أنك تعلم بأنه يعلم جيداً بما فعلت، ولا عذر لك عنده ولكنك بهذا الطلب تحاول أخذ الوقت لمزيد من الإعتذار فقد ينفعك ذلك في أن يغفر لك.
-
الدعاء ومراحل الاستجابة
ونعود فنقول: لكي يصل الدعاء الى مرحلة الاستجابة، ينبغي ان يمر بمراحل:
المرحلة الأولى: أن يتلفظ الإنسان بألفاظ الدعاء، بأن يطلب من الله تعالى أمراً مثلاً، ثم بعد ذلك و في المرتبة الثانية: ينبغي على الإنسان أن يعي ما يقول، فكثير منّا حينما يقرأ الادعية المباركة يهتم بدقة تلفظ الكلمات من دون وعي دقيق لمعاني هذه الكلمات.
أما المرتبة الثالثة: فأن يكون هناك تطابق بين ما يلفظه اللسان وبين ما يطلبه القلب، بأن يكون حقاً يطلب ما يقول، وهذه المرحلة هي ما نسميها بالإقبال.
لكن هذا كله لا يكفي فقد تجتمع هذه المراحل عند الإنسان جميعاً ولكن الدعاء لا يُستجاب، والسبب في ذلك وجود المانع، فالمقتضي موجود، ولكن المانع هو الذي يمنع الدعاء من الوصول.
كمثال على ذلك؛ لو أخذت مقداراً من القماش و وضعت عليه النار لاحترق لا محالة، فوجود النار، والأكسيجين، والجسم القابل للاشتعال، والملامسة كافية لإيجاد الإحتراق، ولكنك لو سكبت مقدارا من الماء أو وضعت حاجزاً بين النار وبين الشيء الذي تريد حرقه، فالشيء لا يحترق بالتأكيد.
هناك الكثير من الذنوب التي يرتكبها الإنسان في الليل والنهار، ولا يعرف مدى تأثير هذه الذنوب على استجابة الدعاء، فنحن نقرأ في دعاء كميل بن زياد، والمروي عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب، عليه السلام، في ليالي الجمعة، وفي ليلة النصف من شعبان، نقرأ: “اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء”، نعم؛ هنالك ذنوب يرتكبها الإنسان تكون حائلاً وحاجزاً من وصول الدعاء الى مبتغاه.
وهنا يأتي دور التوبة والندم على الذنب، و سنتحدث عن ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى، ولكن قد يكون الإمام امير المؤمنين، عليه السلام، يريد الإشارة الى أن الدعاء يجب ان يسمع، فيجب ان يقبل الإنسان على الدعاء وهو نادم حقاً، وتائب حقاً من كل ما اقترف، ليقول بملء فمه، مخاطباً ربه الرؤوف: “إسمع دعائي إذا دعوتك، و اسمع ندائي إذا ناديتك”.
وقد تكون المراتب الثلاث المذكورة في هذه الفقرة إشارة الى معنى واحد، ويختلف بإختلاف الأفراد، فمنهم من يدعو بهذه الكلمات، ومنهم من ينادي الله -تبارك وتعالى- لبعده عنه، لا بُعد الرب عن العبد، فهو القريب، بل بُعد العبد من ربه، والأخير يناجيه.
وقد يكون الاختلاف في التعبير، إشارة الى مراتب مختلفة يمر بها الإنسان في هذه المناجاة، فهو يدعو الله، ولكنه حين يصل الى ذنوبه ومعاصيه فهو يجأر الى الله ويناديه بقلبه، لأنه يعرف عندئذ كم ابتعد عن ربه الرؤوف، وحين ينزل برد اليقين على قلبه، تجده يشعر بحلاوة القرب من الله تعالى فيناجي ربه نجوى القريب للقريب والحبيب للحبيب.
-
طلب النجاة من ملمّات الدنيا وأهوال الآخرة
فالنجوى كما يقول العرب؛ ونَجاهُ نَجْواً ونَجْوى: أي سارَّه، النَّجْوُ: السِّرُّ بين اثنين، ومن ذلك قوله تعالى: {و إِذ هُم نَجْوَى}، وفي حديث أن رسولُ الله (صلى الله عليه و آله) دعا أمير المؤمنين، عليه السلام، يومَ الطائف فانْتَجاه، فقال الناسُ: لقد طالَ نَجْواهُ، فقال: “ما انْتَجَيْتُه و لكنَّ اللهَ انْتَجاه”، أَي أَمَرَني أَن أُناجِيه.
ومن هنا فقد تكون كلمة المناجاة فيها جملة من الدلالات منها:
1. انها تكون بين اثنين غالباً.
2. انها تتسم بالسرية بأن أحد الطرفين او كليهما لا يرغبان بإفشاء الشيء عند غيرهم، وهذا هو حقا ما نجده عن العبد، فهو لا يحب ان يطلع على ذنوبه غير الله -تبارك وتعالى- فهو يناجي ربه معترفا له بما اقترف.
3. حينما تكون المناجاة بين مرتبتين مختلفتين، فهي تحتمل كون الادنى يرغب بستر الأعلى عنه ما يقوله.
4. كما انها ـ أي المناجاة ـ تكون مع قريب، فالبعيد لا يمكن ان نناجيه، بل يجب ان نناديه، وفي أسباب النزول، روي أن سائلاً سأل رسول الله، صلى الله عليه وآله: أ قريب ربنا فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟، فنزل قوله تعالى: {وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}.
5. ولا تكون النجوى إلا اذا كانت هناك علاقة مسبقة بين المناجي والمناجى، وهذه نقطة في غاية الأهمية ينبغي الإنتباه إليها.
ومن هنا سُميت هذه المقاطع بالمناجاة الشعبانية، فهذه الكلمة تحمل في طياتها الكثير من المعاني ولعل الإمام امير المؤمنين، عليه السلام، وهو صاحب المناجاة، يشير الى معنىً أدق للمناجاة فيقول، عليه السلام: “الدُّعَاءُ مَفَاتِيحُ النَّجَاحِ وَ مَقَالِيدُ الْفَلَاحِ وَ خَيْرُ الدُّعَاءِ مَا صَدَرَ عَنْ صَدْرٍ نَقِيٍّ وَ قَلْبٍ تَقِيٍّ وَ فِي الْمُنَاجَاةِ سَبَبُ النَّجَاةِ”.
فكأنه، عليه السلام، يبين لنا وبضوح أن السبب من المناجاة هو طلب النجاة من الله -سبحانه وتعالى- و كأن المناجاة مرتبة أعلى من الدعاء، فهي ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي كما يصفها، عليه السلام، لتكون سبب النجاة.
ثم يقول الإمام، عليه السلام، “وأقبل عليّ” فماذا تعني هذه الكلمة؟
لعل في هذه الكلمة إشارة الى أمر في غاية الأهمية، وهو أن الله تعالى الرؤوف بالعباد، الرحيم بهم، لا يغلق بابه أبداً فإذا وصل الإنسان الى مرحلة المناجاة مع الرب، بشروط المناجاة التي بيناها سابقاً، سيكون الرب هو الذي يقبل عليه، بمعنى أن هذا القلب المغلق والمليء بالوساوس والشبهات، والذي لا يستحق تجلّي نور الرب عليه، يكون الرب تعالى هو الذي يؤهله للمناجاة معه.
والله تبارك وتعالى حين يأمرنا بالتقرب إليه ويعلمنا الطريق الى ذلك يعدنا بأنه هو الذي سيفتح نافذة قلوبنا، فقد ناجى الله تعالى نبيه موسى، على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام، قائلاً: “مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً وَ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً وَ مَنْ أَتَانِي مَشْياً أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً”.
وكم هي عظيمة كلمته تعالى “أتيته هرولة”، ولكن الأمر يعود الى هذا البشر الذي تحيط بقلبه وساوس الغفلة لتحول دون أرادة الحركة باتجاه الرب الرؤوف.
ولو أردنا الوصول الى فحوى هذا الدعاء وجوهره الذي يبينه الإمام، عليه السلام، في قوله: “وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها اليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور”، فكان ينبغي علينا أن نسلك طريقاً قد عبّده من قبلنا الأنبياء والاوصياء والاولياء.
فلو أردنا أن ننيب اليه حقاً كان ينبغي علينا أن لا نغفل عن هذه الخطوط العريضة التي بينها لنا الباري تعالى في هذا الحديث الشريف، وبعد كل ذلك نطلب التوفيق منه على ذلك، ولعلنا نتحدث عن ذلك اكثر في فقرات أخرى من هذه المناجاة الرائعة.