ثقافة رسالية

عوامل السقوط الحضاري في القرآن الكريم (3) السقوط بالفساد السياسي

  • مقدمة سياسية

السياسة في اللغة العربية هي مصدر الفعل ساسَ يسوسُ، وساس: أمرَ، ونهى، ودبَّرَ، يُقال: ساسَ الناسَ؛ أي حكمهم وتولى قيادتهم وإدارة شؤونهم، وساسَ الأمور؛ دبَّرها وأدارها وقام بإصلاحها، وساسَ الدَّواب: روَّضها واعتنى بها.

فالسياسة في الإسلام هي: تنظيم أمور الدولة والعناية بمصالح وشؤون الرَّعية، داخل الدولة وخارجها، فليست هي فن الممكن، أو فن الكذب والدجل والمراوغة، ولا فن تحقيق المصالح، أو فن استخدام القوة لفرض الإرادة والسلطة والهيمنة على البلاد والعباد.

فالسياسة ذات معنى ومضمون تربوي ومسؤولية كبيرة جداً تُجاه الأمة والمجتمع، وليس هو كما يُعرِّفونها في قواميس السياسة المعاصرة، لأن قواميس الحضارة الرقمية مثلها تماماً خالية من القيمة والفضيلة وتنظر من منظار ضيِّق جداً ينظر منه الكاتب والمؤلف والسياسي لتحقيق مصلحته بالوصول إلى الكرسي، ثم العمل على استمراره فيه، وهنا الفكرة التي لم تستطع الحكومات لدينا في دولنا العربية أن تستوعبها في هذا العصر، والذي يتلخَّص بتداول السلطة، وليس أن تكون وراثية، أو شخصية، وهذا جوهر الدعوة والكذبة الحضارية اليوم “الديمقراطية”.

 

  • حقيقة الديمقراطية المعاصرة

حقيقتها أنها كما في تعريفها في الأصل اليوناني: “أنها حكم الطبقة الفاسدة، والغنية المترفة”، ولكن تُرجمت بشكل مغلوط واستخدمت بشكل ذكي من قبل الليبراليين في بلاد الغرب بعد معارك استمرت لقرون طويلة فيما بينهم وبين الكنيسة، وفي أمريكا فقط استمرت قرن ونصف، إلى أن توصلوا إلى هذه الصيغة في الحكم، وهو تداول السلطة السياسية ورأوا أقربها لقبول الناس هذا المفهوم والمصطلح السياسي “ديمقراطية”، والتي عرَّفوها: بأنها حكم الشعب نفسه، بنفسه، ولنفسه” وهذا محض هراء، وضحك على الشعوب والأمم ولكن بطريقة ذكية لا تثيرهم، ولذا تراهم وضعوا المجالس المختلفة وإلا فما بال أم الديمقراطية والليبرالية المعاصرة الولايات المتحدة لا يفوز فيها إلا الملياردير، والذي يملك أصوات في مجلس الشيوخ، ومجلس اللوردات، ومجلس الأمة وكل هذه المجالس لا يصل إليها إلا أبناء الطبقات الغنية والمترفين، ولكن اللعبة السياسية تتلخَّص بتداول السلطة فيما بينهم، حيث حددوها بدورتين، والواحدة في أربع سنوات فقط.

 

الظلم من أخطر الأمور التي تُعجِّل بانهيار الحضارات، وتفتيت المجتمعات، وذهاب النِّعم، فـ”الظلم يطرد النِّعم”، و”راكب الظلم يكبو به مركوبه”

 

هذه الفكرة يمكن أن نستفيدها من القرآن الحكيم في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} فهي الفكرة الأساسية في فكرة الديمقراطية المعاصرة، ولكن مشكلتنا نحن أننا ممنوعون من ممارسة تلك الكذبة “الديمقراطية” لأنهم نصَّبوا عندنا أذنابهم، وأتباعهم، بعد أن قسَّموا الدولة الإسلامية إلى أكثر من خمسين دولة، والبلاد العربية إلى نصفها، ووضعوا الحدود والقيود، فيما بينهم، عملوا جوازات سفر وأنظمة تحرِّم التحرك وكل أنواع التواصل، والأدهى من ذلك هم جعلوهم أنظمة مختلفة من ممالك، وإمارات، ومقاطعات، ومشيخات، وجمهوريات، وجعلوا نُظم الحكم مختلفة حتى يستحيل الاجتماع والوحدة فيما بينهم، وسنُّوا قوانين وكتبوا دساتير أن الحكم وراثياً، ومحصوراً في عائلة واحدة، فصار كل مَنْ يصل إلى الحكم “إلى الأبد”، أو إلى السجن ثم المشنقة، كما رأينا ونرى في القرن والزمن الحالي في بلادنا..

فهم يفرضون تداول السلطة فيما بينهم وقامت الدنيا ولم تقعد عندما حاول الطاغية ترامب وطاقمه البقاء ولو لساعات في البيت الأسود، لأنه كان خطراً على الديمقراطية الأمريكية، فنزعوه رغماً عنه وقذفوا به في مزارع البقر ليعيش بقية حياته هناك.

وأما عندنا فهم فرضوا رجلاً يُقارب التسعين من عمره وهو خَرف “بالزهايمر”، ولا يعرف غربه من شرقه، ولا شماله من يمينه، وراح ولده يتحكم بكل المنطقة والعالم الإسلامي بما يملكه من مال كثير وثراء عريض، فلا مجال ولا مكان، ولا يمكن أن تقربنا الديمقراطية، لأن مَنْ يتكلم بكلمة يُقتل ويُقطَّع بالمنشار الكهربائي وهو حيٌّ ثم يُذاب جسمه بالتيزاب، فهي دمقراطية المنشار.

 

  • الفساد السياسي هو أوَّل عوامل سقوط الحضارات

وذلك لأن الظلم الذي نهى الخالق عنه أكثر ما يُمارسُ في السياسة، وأنظمة الحكم السياسية لما تملكه من السلطة، والمال، والجاه، والقوة، والجيش، والشرطة، وكل أجهزة الدولة تُسخَّر للظلم والقمع ومنع الحريات، والله تعالى خلق الإنسان حراً قال الإمام علي، عليه السلام: “أيها الناس إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار“، و”لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً“، و”لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حراً“، و”الحرُّ حرٌ ولو مسَّه الضُّر“، وقال الإمام الصادق، عليه السلام: “إن الحرُّ حرٌّ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكَّت عليه المصائب لم تكسره وإن أُسر وقُهر واستبدل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق الأمين صلوات الله عليه لم يضرر حريته أن استُعبد، وقُهر، وأُسر“.

ما أجملها من كلمة وما أعظمه من مثال عن نبي الله يوسف الصديق، عليه السلام، الذي أنقذ دولة الفراعنة من السقوط، ولكن بشرط أن يأخذوا بتعاليمه الربانية ويهجروا الكفر والشرك وعبادة البشر (فرعون)، والحجر (آمون)، ويتَّخذوا ملوكهم أرباباً من دون الله تعالى، والله سبحانه يقول على لسان بلقيس الحكيمة اليمنية: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل: 34)

 

  • فساد الملوك يُفسد الحياة

الفساد السياسي؛ هو فساد الرأس الحاكم، والمدبِّر، والموجه، والمسيطر، ولذا إذا فسد الحاكم فسد الحُكم وانتشر الظُلم، وفي القول المشهور: “الملك يبقي مع الكفر، ولا يبقي مع الظلم“، يقول الشيخ مغنية: “إن حوادث التاريخ لتشهد لهذه الحكمة بالحق والصدق؛ إن الحُكم الذي يرتكز على الأنساب والوراثة، ومظهر الدِّين، ورضا الأفراد المقربين لا يلبث حتى يزول، والأساس الثابت للحكم هو ثقة الشعب وولاؤه”.

 

الفساد السياسي؛ هو فساد الرأس الحاكم، والمدبِّر، والموجه، والمسيطر، ولذا إذا فسد الحاكم فسد الحُكم وانتشر الظُلم، وفي القول المشهور: “الملك يبقي مع الكفر، ولا يبقي مع الظلم”

 

فالظلم من أخطر الأمور التي تُعجِّل بانهيار الحضارات، وتفتيت المجتمعات، وذهاب النِّعم، فـ”الظلم يطرد النِّعم“، و”راكب الظلم يكبو به مركوبه“، إن زوال الأمم والحضارات بسبب الظلم أمر طبيعي، ذلك أن الظلم يحمل أسباب إنهياره في داخله، فلا يقوم بناء إلا على العدل وما قام على الظلم سينهار لا محالة، يقول تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ} (الأنبياء: 11)، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}.(القصص: 59)، وقال أمير المؤمنين، عليه السلام: “الظلمُ يزلُّ القدمَ، ويسلبُ النِّعمَ، ويُهلكُ الأُمَمَ“. (أصول الحضارة السيد هادي المدرسي).

فالملوك فاسدون ومفسدون في الأرض، وأبشع وأشنع شيء عندنا هو الاستبداد السياسي، فالحاكم يُريد أن يبقى إلى الأبد ويورِّث الحُكم إلى أبنائه، وكأن الأمة ملك له وعبيد عنده، وفي القرآن الحكيم الكثير من الأمثلة عن هؤلاء الفاسدين كالنمرود الذي طغا وبغا على خلق الله، وفرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعات: 24)، وعندما جاءه الحق مع نبي الله موسى، عليه السلام، قال: {فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: 29)، ولما آمن السحرة الذين استقدمهم لنصرته على كليم الله موسى قال لهم: {آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. (الشعراء: 123)

هؤلاء الملوك المفسدون في الأرض يُظهرون أنفسهم على أنهم مصلحون، ولا يجوز لأحد أن يخرج عن أوامرهم وقراراتهم، لأن في ذلك فساد في الأرض، يقول سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله): “إن الطغاة والفاسدين المفسدين من جلاوزتهم يزعمون أبداً؛ أن وجودهم واستمرار سيطرتهم يضمن للمجتمع الأمن والازدهار، بينما لا يضمن الطغيان إلا الخراب والدمار لأنه يكبت طاقات الناس، ويُضعف إرادتهم”. (من هدى القرآن: 3/153)

فالفساد السياسي هو أسُّ، وأصل الفساد في الأمة وأعظم معول في هدم الحضارة الإنسانية.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا