ثقافة رسالية

عوامل السقوط الحضاري في القرآن الكريم (1) ـ كيف يسقط الإنسان؟

  • مقدمة حضارية

إذا أردنا أن تحدث عن السقوط الحضاري الذي شهدناه في نهاية القرن الماضي بسقوط الإمبراطورية السوفييتية البائدة، ونشهد إرهاصاته بالنسبة لامبراطورية الشر عالمي والشيطان الأكبر الولايات المتحدة التي تترنَّح للسقوط بإذن الله تعالى، وولادة جديدة لحضارات قديمة كالصين ذات العمق الحضاري الغائر في عمق الزمن، أو الحضارة الفارسية ولكن بصيغة إسلامية في بلاد فارس، فلا بدَّ من أن ننطلق لفهم ما يدور حولنا من منطلق رباني، وهو بالعودة إلى رحاب كتاب الله العظيم القرآن الحكيم الذي يُعطينا القواعد الحضارية للبناء، ويُبيِّن لنا في الوقت نفسه معاول الهدم للحضارات البشرية.

 

  • عظمة القرآن الحكيم

فالقرآن الحكيم هو كلام الله العظيم، الذي خلق الإنسان وكرَّمه بالعقل والإرادة وأمره بعمارة الأرض وبناء المجتمع الصالح والحضارة الإنسانية الراقية، حيث قال سبحانه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}. (هود: 61)، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. (البقرة: 29).

فهو الذي خلق الإنسان من تراب الأرض، وأمره بعمارتها وإصلاحها، لأنه وضع فيها كل ما يحتاج إليه الإنسان من الخيرات والبركات، فكل ما في الأرض هو في خدمة الإنسان، ولأجله لأنه المخلوق الوحيد الذي خُلق لأجل الله سبحانه وتعالى كما في الحديث القدسي: “عَبْدى؛ خَلَقْتُ الأَشياءَ لِأَجْلِك وَخَلَقْتُكَ لِأجْلى، وَهَبْتُكَ الدُّنْيا بالإِحسانِ وَالآخِرَةَ بِالإِيمانِ“. (الجواهر السنيّه، ص 284).

 

الحضارة تُشبه الإنسان؛ كلاهما يُولد وكلاهما يموت، وكما أن الإنسان لا يُريد أن يُصدِّق أنه سيموت في يوم من الأيام كذلك أصحاب الحضارات لا يُحبِّذون الحديث عن أن حضارتهم سوف تسقط

 

فالخالق تعالى هيَّأ لنا كل المقدمات اللازمة والضرورية لبناء الحضارة الراقية ولذا نهانا عن كل ما يهدمها على رؤوس أصحابها، وبيَّن لهم معاول الهدم كما أوضح وسائل البناء، وكان العامل المشترك لكل معاول الهدم هو الفساد في الأرض، ولذا ورد النهي عن الفساد في الأرض أربع مرات في الآيات الكريمة، قاتل تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}. (الأعراف: 56).

ولكن أشدها واشقها ما كان في سورة محمد، صلى الله عليه وآله، حيث تتحدَّث عن الفساد السياسي وتجعله أصل الفساد في الأرض، وتخاطب الأمة الإسلامية مباشرة حيث قال سبحانه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}. (محمد: 24).

فعظمة القرآن الحكيم أنه كلام الخالق العظيم الذي خلق كل شيء وهو أعلم بنا من أنفسنا، وأعلم بما يُصلحنا، ويُصلح واقعنا الفاسد، ولذا تراه أعطى صوراً متعددة للفساد، وضرب أمثلة راقية من تاريخ الأمم والحضارات البائدة التي مرَّت على هذه الأرض منذ أبينا آدم، عليه السلام، وحتى يومنا الحاضر حيث ننتسب إلى النبي الخاتم، صلى الله عليه آله، ولكتابه الحكيم ذي البيان العربي المبين في ذلك كله، فما هي معاول الهدم التي يمكن أن نستفيدها من الآيات الحكيمة على ضوء سورة الحضارة الإنسانية (العنكبوت) المباركة التي أُمرنا مشدَّداً بقراءتها في ليالي القدر المباركة؟

 

  • دوران الحضارة بين الشعوب

المتأمل في تاريخ الحضارات والأمم يجدها كالأفراد تماماً ـ كما يقول ابن خلدون ـ تولد ضعيفة، ثم تبدأ تكبر، حيث يقول: “أن العمران كله من بداوة، وحضارة، وملك، وسُوقة له عمر محسوس، كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمراً محسوساً، وتبيَّن في العقول والنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها، وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة، ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط، فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضًا كذلك؛ لأنه غاية لا مزيد وراءها، وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها”.

وفي الحقيقة فإن الحضارة لا تموت بل تنتقل من أمة إلى أمة، ومن منطقة إلى منطقة، ومن شعب مترف مترهِّل إلى شعب آخر نشيط وناهض وكادح في سبيل البناء الحضاري، وهذا ما يقوله صاحب قصة الحضارة ول ديورانت: “إن الحضارة لا تموت، ولكنها تهاجر من بلد إلى بلد، فهي تُغيِّر مسكنها، وملبسها، ولكنها تظلُّ حية، وموت إحدى الحضارات كموت أحد الأفراد، يفسح المكان لنشأة حضارة أخرى، فالحياة تخلع عنها غشاءها القديم وتفاجئ الموت بشباب غض جديد”.

وهذا ما دعا المفكر الجزائري مالك بن نبي ليقول: “الحضارة تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر”، ورب العزة والجلال أصدق القائلين حيث يقول: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 141).

 

  • معاول هدم الحضارات

فكما أن للبناء أسبابه وعوامله كذلك للهدم له فؤوسه ومعاوله التي إذا ما بدأت بالضرب على أصول الحضارة فلا تلبث إلا أن تسقط ودويُّ السقوط وصوته يكون بحسب بنائها وارتفاعها ولذا فإن سقوط الحضارة الأمريكية سيكون مزلزلاً ورهيباً بإذن الله تعالى، وقريباً سنشهده كما شهدنا السقوط المدوي للحضارة السوفييتية في تسعينيات القرن الماضي.

 

الحقيقة تقول: إن سقوط الحضارة ودمار الأمم، وتخلف المجتمعات أمر قد وقع في السابق وأنه يقع في اللاحق”

 

يقول سماحة السيد هادي المدرسي (حفظه الله): “الحضارة تُشبه الإنسان؛ كلاهما يُولد وكلاهما يموت، وكما أن الإنسان لا يُريد أن يُصدِّق أنه سيموت في يوم من الأيام كذلك أصحاب الحضارات لا يُحبِّذون الحديث عن أن حضارتهم سوف تسقط، ولكن الحقيقة تقول: إن سقوط الحضارة ودمار الأمم، وتخلف المجتمعات أمر قد وقع في السابق وأنه يقع في اللاحق”.

قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}. (الاعراف: 34).

ثم يقول سماحته: “إلا أن هذا السقوط وهذا الأجل ليس بالحتمية التاريخية التي يُنادي بها البعض وإنما هي نتيجة لتراكم مجموعة من العوامل عبر الزمن”، ثم يذكر سماحته ستة عوامل في سقوط الحضارة كان أهمها:

  • انعدام العدالة (الفساد السياسي).
  • التدهور البيئي (الفساد البيئي).
  • العنف السياسي (الفساد في الحكم).
  • الحروب الخارجية (الفساد الدولي).
  • تعقيد المجتمع (الفساد الاجتماعي).
  • الترهل الحضاري (الفساد الحضاري).

ثم يتحدَّث ببسط من القول العديد من معاول هدم الحضارات في التاريخ البشري، إستفادها من آيات القرآن الحكيم، وتجارب التاريخ والأمم، حيث بلغت إحدى عشر فأساً ومعولاً تتعاون كلها في هدم الحضارة وتختلف بالقوة والضعف وبالتالي في التأثير على البناء الحضاري المتداعي للسقوط والهلاك، مؤذنة لولادة حضارة جديدة أخرى في مكان ما تحت الشمس.

وسنتحدَّث عن تلك المعاول الهدَّامة للحضارة كما وردت في آيات القرآن الحكيم، لا سيما آيات سورة العنكبوت المباركة، لأنها هي سورة الحضارة البشرية – كما بيَّنا من قبل – وآياتها تُصوِّر لنا بعض تلك الصور والتجارب من الأمم والحضارات الهالكة، وتُبيِّن السبيل لتفادي السقوط وهو متجدد كما الإنسان تماماً، حيث أن باب التوبة مفتوح أمامه إلى لحظة المعاينة إلا أنه يسهى عن ربه ويغفل عن نفسه.

 

  • الحضارة اليوم نَسيت ربَّها

هنا مقتل الحضارة كما أنها مقتل الإنسان، حيث يعيش كالبهيمة لا يعرف من قيم الحياة إلا ما يأكله ويشربه، فهو يعيش ليأكل ويرفث ويتسافد كالحيوانات وربما يغفل عن قيم الحياة كلها، كما نرى ونسمع الآن في الغرب وحقيقة تستغرب كيف يعيشون فأحياناً ترى البهائم خيراً منهم لا سيما أولئك الذين يتدنون إلى مستوى البهيمة فيعيش مع كلبه، أو قطته، أو حتى يتزوج حمارته، وتكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فانقلبت الموازين والقيم كلها الآن في الغرب وهم يخرجون شيء فشيء عن الإنسانية.

والحضارة الرقمية اليوم هي كذلك فبدأت نهضتها بقول نيتشة “قتلنا نحن الإله”، ثم جاء بعده آخر فقال: “قتلنا الإنسان”، ويقصد أنه قتل إنسانية الإنسان، أي أنه صار حيواناً ضارياً لا يعرف معنى ولا يفهم مبنى للفضيلة والقيمة وعلى هذا الأساس يتصرف في حياته، وأخيراً جاؤوا لنا بفكرة “النسنة”، وهي صرخة لإعادة الإنسان إلى إنسانيته من دون الله لأنهم قتلوه منذ بداية النهضة الأوربية فقامت حضارتهم على الدماء والشلاء لا سيما حضارة أمريكا التي ما قامت إلا على أنقاض ناغازاكي وهيروشيما اليابانيتان ودماء الهنود الحمر فيها.

فهذه الحضارة نست ربها فنسيها من رحمته وعصته فاستحقت غضبه فلتنتظر سطوته وعذابه – والعياذ بالله – “إن هذه الحضارة حينما نسيت ربها سقطت في مستنقع الرذيلة لقد {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. (الحشر: 19)، ولذلك فمثل هذه الحضارة بحاجة إلى مراجعة شاملة، وإعادة للنظر في كل الأسس والقواعد التي تقوم عليها”.

نعم هي بحاجة إلى توبة، وأوبة سريعة إلى الله حتى تستطيع الخروج من هذه المتاهة المظلمة التي دخلت فيها ولا منجي ولا منقذ لها إلا بالرجوع إلى ربها وبارئها قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. (الأنعام: 45).

فالله تعالى يُذكِّر البشر بأنواع المصائب والابتلاءات كالحروب والزلازل والكورونا وغيرها ليتوب إلى الله ويرجع إلى صراطه المستقيم ويُغيِّرُ نفسه فيأذن الله بتغيير واقعه السيء.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا