أسوة حسنة

الإِمَامُ مُحَمَّدُ البَاقِر قَمَرٌ فِي لَيلِ الأُمَّةِ الإِسلَامِيَّة

  • مقدمة تاريخية

التاريخ نبع فيَّاض في الدروس والعِبر لمَنْ يعتبر، فهو نبع الحضارة الإنسانية لمُرتادها والباحث عن أصولها ومبادئها في هذا العصر الحضاري، وتاريخنا العربي الإسلامي هو تاريخ القمَّم الشامخة، والقيم الإنسانية الراسخة، ومنهم الإمام الخامس من أئمة المسلمين الذي بقر علوم العالمين، وورث علوم الأنبياء والمرسلين فكان آية من آيات الله الناطقة، وحجة من حججه السامقة، شبيه جده رسول الله، صلى الله عليه وآله وسميَّه ومحيي دينه وسُنَّته في أمته.

تاريخ الإسلام رائع لولا ما فعلته السلطة القرشية من انحراف طمعاً في السلطة والحكم، ولكن ذلك الانحراف أوصل الأمة وقريش إلى حكم البيت الأموي، تلك الشجرة الملعونة في القرآن فأدخلوا الجميع في ليلهم المظلم، وظلمهم العجيب، لأنهم وصلوا إلى الحكم موتورين، حاسدين على أهل البيت، عليهم السلام خاصة، وعلى المسلمين عامة لوقوفهم إلى جانب رسول الله في حروبهم خلال بناء الدولة الإسلامية المباركة.

 

  • فتنة الحكم الأموي المظلمة

تاريخ الإسلام مشرق وعظيم لولا الحكم الأموي الغشيم، الذي أحال نهار الأمة إلى ليل طويل، وحمل ثقيل لم تقم به الجبال الرواسي، ففي حديث أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام: “أن رسول الله، صلى الله عليه وآله، أخذته نَعسة، وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون(يقفزون) على منبره نزو القردة، يردُّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول الله جالساً والحُزن يُعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل، عليه السلام، بهذه الآية: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًايعني بني أمية.

إلى أن قال: فأطلع الله عز وجل نبيه، عليه السلام، أن بني أمية تملك سلطان هذه الأمة، وملكها طول هذه المدة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتى يأذن الله تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا، أخبر الله نبيه بما يلقى أهل بيت محمد وأهل مودتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم“.

 

لم تكن شهرة الإمام الباقر، عليه السلام،  العلمية مقتصرة على أهل الحجاز، بل عمّت العراق وخراسان وبقية البلدان الإسلامية بشكل واسع

 

نعم؛ أهل البيت الأطهار، عليه السلام، هم حبل النجاة منها، ولكنَّهم ليس لهم دعوة ظاهرة بمناهضتهم لتلك الحكومة الظالمة، والفتنة الشوهاء، بعد حادثة كربلاء، ومأساة عاشوراء الخالدة، فكان فيها الكفاية لتنهض هذه الأمة من كبوتها، وتقوم من غفلتها، وتصحو من سكرتها التي أدخلهم فيها الحكم الأموي المجرم، وحاولوا دفن الإسلام وقتل المسلمين وأئمتهم.

 

  • الإمام الباقر قمر ذلك الليل

في ذلك العصر، وفي حلكة ظلام تلك الأيام بعث الله بلطفه ونعمته لهذه الأمة نوراً ساطعاً، وعلماً شامخاً، من الدوحة النبوية، والشجرة العلوية الإمام الخامس من أئمة المسلمين محمد بن علي زين العابدين، والذي بقر العلوم للعالمين، وورث علم النبيين، فسطع كبدر في ذلك الليل البهيم المظلم، فأنار دنيا الإسلام والمسلمين بشخصه الكريم وعلمه العظيم.

الإمام محمد الباقر، عليه السلام الذي ولد في غرة شهر رجب الأصب في مدينة جده رسول الله وفي بيت جده الحسين السبط، عليه السلام في عام 57هـ أي أنه حضر معه في كربلاء ورأى وسمع وعاش كل مآسيها من بدايتها وحتى نهايتها، فكانت قصصها قضُّ مضجعه لا سيما قصص الشام وما جرى فيها عليهم من حكام بني أمية وصبيانهم المجرمين.

كما أنه عاش في ظل والده الإمام زين العابدين وسيد الساجدين، عليه السلام،  خمساً وثلاثين سنة من الحزن والبكاء الرسالي الهادف لفضح ظلم وظلام بني أمية، ولكنه عاش من بعده عقدين من الزمن يؤسس للإسلام مدرسته، ويُنشئ للأمة جامعتها التي أعادت الإسلام إلى الحياة، والأمة إلى الإسلام العظيم بعيداً عن السياسة الأموية، فسار معهم في ليلهم ولكن كان يُشعل المشاعل في كل الدروب المظلمة في حياة الأمة دون أن يُثير شهية السلطان الأموي الظالم إلى سفك الدماء الطاهرة الزكية لآل محمد، صلى الله عليه وآله، ورأسهم وعظيمهم الإمام الباقر، عليه السلام،  في عصره.

وقد التفت سماحة المرجع الديني السيد المدرسي (حفظه الله) إلى هذه النقطة حيث قال: “يبدو أن بني أمية كانوا يتجنبون قتل أبناء علي، عليه السلام، بصورة ظاهرة، للآثار السلبية التي خلفتها عليهم واقعة الطف، وكان الأئمة بدورهم لا يجدون الظروف مؤاتية للقيام بنهضة دموية، والقصة التالية التي يذكرها الرواة تشهد بذلك، فبعد أن نازع زيد بن الحسن الإمام الباقر، عليه السلام، في ميراث رسول الله استنجد بالخليفة الأموي (عبد الملك بن مروان) ودخل عليه وقال له: “أتيتك من عند ساحر كذاب لا يحل لك تركه”، فكتب عبد الملك كتاباً إلى واليه على المدينة أن يبعث إليه محمد بن علي مقيداً، وقال لزيد: “أرأيتك إن وليتك قتله قتلته؟” قال: نعم”. (والعياذ بالله).

 

كانت رسالة الإمام الباقر، عليه السلام، بقر العلم، وتأسيس المراكز العلمية، وتربية أجيال من العلماء في مختلف العلوم والمعارف الدينية والدنيوية، وورَّث ذلك كله إلى ولده العظيم أستاذ الأمة وفقيهها الإمام جعفر الصادق، عليه السلام

 

ولكن عامله على المدينة استدرك الأمر وكتب إلى الخليفة: “إن الرجل الذي أردته لا يوجد اليوم على وجه الأرض أعف منه، ولا أزهد، ولا أورع منه، وإنه ليقرأ في محرابه فيجتمع الطير والسباع تعجباً لصوته، وإن قراءته وكتبه مزامير داود، وإنه من أعلم الناس، وأرقِّ الناس، وأشدِّ الناس اجتهاداً وعبادةً، وأضاف في كتابه: وكرهت لأمير المؤمنين التعرض له، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.

وهكذا تراجع عبد الملك مما بدر منه، وبعد أن اكتشف كذب زيد بن الحسن أخذه وقيَّده وهيَّأه، وقال له: “لولا أني أريد ألا أبتلى بدم أحد منكم لقتلتك”، ثم كتب إلى الإمام الباقر، عليه السلام، : بعثتُ إليك بابن عمِّك فأحسن أدبه”. (الإمام الباقر قدوة وأسوة: السيد المدرسي: ص34).

ولذا يروي اليعقوبي في تاريخه، قال: “وكان عبد الملك قد كتب إلى الحجاج وهو على الحجاز: “جنِّبني دماء آل أبي طالب، فإني رأيتُ آل حرب لما تهجموا بها لم يُنصروا”، وفي رواية أخرى: “أن آل أبي سفيان لما وَلَغوا في دمائهم قصم الله ملكهم”، ورُويَ أنّ الحجّاج بن يوسف هو الذي كتب إلى عبد الملك: “إنْ أردتَ أن تَثْبت في مُلْكك، فاقتلْ عليَّ بن الحسين”؛ فكتب عبد الملك إليه: “أمّا بعد، فجنّبْني دماءَ بني هاشم واحقنْها؛ فإني رأيتُ آلَ أبي سفيان لمّا أُوِلعوا فيها لم يلبثوا أن أزال اللهُ المُلْكَ عنهم”، وبعثَ بالكتاب سرّاً إلى الحجّاج، فكتب له الإمام عليّ بن الحسين، عليهما السّلام إلى عبد الملك في الساعة التي أنفذ فيها الكتاب: “علمتُ ما كتبتَ في حقن دماء بني هاشم، وقد شكر اللهُ لك ذلك وثبّت ملكك وزاد في عمرك“.

 

  • من نور وبركة الإمام الباقر

فالمعروف أن أهل البيت، عليه السلام، لا يُقاس بهم أحد من هذه الأُمة ولا من غيرها فهم خيرة الله وصفوته من عباده، وفي كل زمان منهم حُجة لله على خلقه، وكان الإمام الباقر، عليه السلام، هو ذلك الحُجة في عصر، ومنه شعَّ النور في ديجور وظلام الحكومة الأموية، ولذا كان العلماء يقوفون بتواضع وخضوع قلّ نظيره حين حضورهم عنده، عليه السلام، فعن عبد الله بن عطاء المكي قال: “ما رأيتُ العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، عليه السلام،، وقد رأيتُ الحكم بن عيينة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلّمه”.

فكانت رسالة الإمام الباقر، عليه السلام، بقر العلم، وتأسيس المراكز العلمية، وتربية أجيال من العلماء في مختلف العلوم والمعارف الدينية والدنيوية، وورَّث ذلك كله إلى ولده العظيم أستاذ الأمة وفقيهها الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، الذي ملأ الدنيا بالعلم، وشغل الناس بالحديث والرواية عنه، حتى اجتمع في مسجد واحد تسعمائة شيخ كل يقول: “حدثني جعفر بن محمد”.

هذا العطاء العلمي الباقري هو الذي أحيا معالم الدِّين الإسلامي بعد اندثاره، وأنعش الأمة الإسلامية به بعد محاولة دفنها، وهو الذي أنار لها طريق الحياة ودرب العزة والكرامة، ولا غرو في ذلك فهو أول مَنْ جمع نور السبطين الشهيدين العظيمين الحسن والحسين، عليه السلام،  في شخصه الكريم، فهو أول حسن حسيني، في تلك السلسلة الذهبية ولذا يقال: بأنه كان أجمل أهل زمانه.

ولذا لم تكن شهرة الإمام الباقر، عليه السلام،  العلمية مقتصرة على أهل الحجاز، بل عمّت العراق وخراسان وبقية البلدان الإسلامية بشكل واسع، حيث يقول الراوي: “رأيتُ أهل خراسان التفّوا حوله حلقات يسألونه عمّا أشكل عليهم”، فكان نور وعلم الإمام الباقر، عليه السلام،  قد انتشر في الخافقين، فحقاً كان القمر المنير في ليل الحكم الأموي الطويل.

فآلاف التحية والسلام على الإمام الباقر نور الظلام في الليل الأموي.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا