ثقافة رسالية

 هل التقدم الحضاري قابل للاستيراد؟ *

هنالك من يدعي أن الحضارة لا يمكن استيرادها؛ لأن الحضارة علم ومعرفة، وعادات وتقاليد سليمة، وهي امور لابد أن نتعلمها، ولا يمكن أن نستوردها.

وقد يقول هذا الملام من هو منبهر بحضارة الغرب، ويرى أن علينا أن نصدر إليها بقايا حضارتنا ، وننتقل معها إليهم ونذوب فيهم .

اي أنه يرى خصوصية في المكان والزمان، فهذا العصر في نظره هو عصر الغرب، والمكان الطبيعي لمن أراد العيش في بحبوحة من التقدم المادي، فلينتقل إلى هناك.

وقد يقول من ينظر إلى الحضارات نظرة الباحث وليس نظرة المنبهر.

في الواقع فإن الحضارات تاريخياً كانت تنتقل من مكان لمكان وتتفاعل فيما بينها.

ذلك أن للحضارة بذرة، إذا زرعت في أرض نمت، وإذا نمت أنتجت، لا فرق أن تكون تلك الأرض الصين، كما لها حضارة في قديم الزمان، أو الهند أو مصر، أو الشرق الأوسط، أو القارة الأوربية، أو القارة الامريكية، أو أي مكان آخر.

فمن أراد الحضارة فلا بد أن يفهم أصولها وأن يدرس كيف يتم قيام الحضارات، وكيف يحدث سقوطها.

من أراد استيراد بستان من مكان إلى مكان فلن يتم له ذلك عن طريق استيراد الورود والثمار، بل باستيراد البذور والنبات، أما التربة فهي عادة ما تكون صالحة.

إن الذي يستورد الثمرة، ويظن أنه قد استورد البستان فهو مخطئ،  ومن يستورد السيارة ويشتري الطائرة، ويظن أنه استورد الحضارة فهو مخطئ أيضاً.

فكلما استوردتَ السيارات المصنعة الجاهزة مثلاً، وتجنبت التفكير في عملية إنتاجها في أرضك أخرت قيام حضارتك، لأنك نقلت المال الذي هو من أسس البناء الحضاري، نقلته من أرضك إلى أرض غيرك، وعطلت العقول، وحولت الناس إلى مستهلكين بدل أن يكونوا منتجين.

إن الحضارات قابلة للتصدير بأصولها، وجذوها، فمن أراد استيراد الحضارة فليتعلم العلم، وليمتلك عناصر القوة، بما في ذلك المال والرجال، والتنظيم الدقيق للحياة والعلوم وما اشبه.

حينما تكون الأمة متماسكة، وواعية، وواثقة من نفسها فهي بدل أن تستورد السيارات تستورد مصنعها، وبدل أن تستورد أجهزة إلكترونية تستورد المخطط الذي صنع تلك الأجهزة، وبدل أن تندب حظها العاثر تحي في نفسها روح القيم والمبادئ.

 

أن العناصر الأساسية للحضارات هي: القيم + الإنسان + العلم + الروحية العالية + العمل

 

نحن نستطيع أن نكون تلاميذ لدى حضارات الآخرين، فـ “أعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه” كما يقول رسول الله، صلى الله عليه وآله، فنأخذ الجيد منها، وما يناسب مع قيمنا وديننا وظروفنا وتربيتنا ومناخنا، ونبني حضارتنا، ولربما تكون حضارتنا حينئذ أقوى واكثر تماسكاً وأهم وأفضل إنتاجاً من حضارة غيرنا، لأن غيرنا لم يكن قد سبق بمثل الحضارة الفعلية، ونحن قد سبقنا بها.

أما إذا فقدنا الثقة بالذات، ورأينا في حضارة الغرب نهاية الحضارات، والسقف الذي لا يمكن تجاوزه، فلن نستطيع أن نبني حضارة بأمة خائرة القوى، لا تملك من الثقة بالنفس شيئاً، وترى أن كل شيء قد أنتهى بالنسبة إليها.

لقد رأينا كيف أن بعض الأمم تعلمت أو قلدت أو سرقت من غيرها عناصر قوتها، وبنت نفسها واستطاعت أن تنافس حضارات الآخرين.

هذه هي الدولة الصغيرة التي بالكاد ترى بالخارطة (سنغافورة) استطاعت خلال فترة زمنية قياسية أن تنافس الغرب فيما يمتلك من تكنولوجيا، وفيما يملك من مال، وحسن التنظيم للحياة، وأصبحت تنافس أقوى الدول في عمليات الاستيراد والتصدير.

لقد شهدت سنغافورة بعد الانفصال عن ماليزيا عام 1965م وضعاً متردياً جداً، يسوده الفوضى والبطالة والفقر وعدم الاستقرار، وانعدام الموارد الطبيعية  لدرجة أنها كانت تستورد الماء والتراب من جيرانها، إلا أن هذه الجزيرة الصغيرة، رغم كل الصعوبات، استطاعت أن تنهض وتنطلق وتصبح اليوم رابع أهم مركز مالي في العالم، وخامس أغنى دولة بالعالم من حيث احتياطات العملة الصعبة، وثالث أكبر مصدر للعملة الصعبة الأجنبية، كما أنها تعتبر المركز المالي والتكنولوجي الأول في المنطقة.

رغم أن ما حصل في سنغافورة قد حصل في فترة زمنية قصيرة جداً إلا انه لم يكن معجزة أو قفزة حظ، بل كان نتيجة لمجموعة من العوامل المتنوعة، إضافة إلى جهود جبارة بذلت في هذا البلد الصغير.

ولعل أحد أهم العوامل المساهمة في هذه القفزة هو الاهتمام بتجارب الشعوب، ومحاولة استيراد المبادئ الحضارية من الحضارات الأخرى، وإعادة زراعتها ضمن شروط بيتها.

يقول “لي كوان يو” رئيس وزراء سنغافورة الأسبق، ومؤسس نهضتها الحديثة : ’’ الدول تبدأ بالتعليم، وهذا ما بدأت فيه عندما استلمت الحكم في دولة فقيرة جداً، اهتممت بالتعليم أكثرمن نطام الحكم، فبنيت المدارس، والجامعات، وأرسلت الشباب إلى الخارج للتعلم، ومن ثم استفدنا من دراستهم وتجاربهم في الخارج لتطوير الداخل السنغافوري ’’ ، كما أن “لي كوان يو” كان هو أيضاً قد درس في جامعة كامبريدج البريطانية.

ومن قبل (اليابان) ومن معها (كوريا الجنوبية) و (تايوان)، واليوم (الصين) هي الأخرى تقوم من كبوتها، وتنافس الحضارة الغربية بما تملك من قدرات ذاتية وتقدم صناعي وحضاري.

أن العناصر الأساسية للحضارات هي:

القيم + الإنسان + العلم + الروحية العالية + العمل .

تلك هي العناصر الأولية لبناء الحضارات، وهي عناصر يمكن أن تمتلكها أية مجموعة بشرية في أي مكان، سواء كانت كبيرة كالصين، أو صغيرة كسنغافورة، وسواءً كانت في أرض لا تملك شيئاً كالأرض البركانية مثل اليابان، أو منطقة تزخر بالموارد الطبيعة مثل البترول والمعادن كبلادنا.

الحضارات إذن قابلة للاستيراد، كما هي قابلة للتصدير، ولكن ليس  بمعنى استيراد المنتوجات، وإنما استيراد التقدم العلمي والتنظيم الصحيح، وتكاملية القيم، والاستفادة من تجارب البشر، وتلاقح العقول.

 

لعل أحد أهم العوامل المساهمة في هذه قفزة سنغافورة هو الاهتمام بتجارب الشعوب، ومحاولة استيراد المبادئ الحضارية من الحضارات الأخرى، وإعادة زراعتها ضمن شروط بيتها

 

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن العقل ركن أساسي في البناء الحضاري، فإننا نجد مع ـ الأسف ـ أننا نصدر هذه العقول إلى الآخرين، فالأطباء والمهندسون والحرفيون والكتّاب وكبار الخبراء الصناعيين يهاجرون من بلداننا زرافات ووحدانا إلى الدول الأخرى.

ووفقا لإحصاءات البنك الدولي لعام 2010م فإن نسبة المهاجرين من منقطة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تبلغ 5,3% من سكانها، وهي اعلى نسبة مغتربين حول العالم؛ حيث تقدر بيانات البنك الدولي أن هناك حوالي 18,1 مليون مهاجر من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عام 2010م، وفي عام 2015م هاجر من السودان وحدها نحو 50 ألفا من الكفاءات السودانية من اساتذة جامعات والأطباء، والصيادلة، والمهندسين، والعمل المهرة، حسب احصاءات جهاز تنظيم شؤون المغترين في السوادن، كما أن الحكومة أعلنت أنها فقد 34% من الكوادر العلمية والباحثين في المركز القومي للبحوث خلال الأشهر الستة الأخيرة من العام 2013م.

***

أما لماذا نصدّر العقول المفكرة؟

فإن هناك سببين رئسيين لا ثالث لهما:

  • الأول: غلق أبواب الحريات في بلادنا
  • الثاني: فتح الأبواب لهم في البلاد الأجنبية

أما الاغراءات المادية فإن لها تأثيرا ثانويا على هجرة العقول المفكّرة، لأن الإنسان يبحث عن الحرية قبل أن يبحث عن الخبز، ويبحث عن ذاته قبل أن يبحث عن سعادتها، وينشدّ إلى اسرته وبلاده قبل أن ينجذب الى البلاد الأجنبية، ولكن ماذا يفعل من تكون بلاده مسكونة بالغيلان؟ ويحكمها الطغاة؟ ألا يبحث عن مكانٍ آخر؟

إذن الأمن قبل الحرية والحرية قبل الخبز، ومن هنا فإن الحضارات حينما تقوم في مكان ما بأسسها السليمة فهي تجذب إلى نفسها كل الباحثين عن الأمن والحرية والخبز، ومن ثم خيرات المناطق الاخرى.

***

كثيرا ما يطرح عليَّ هذا السؤال: ألا ترون أن المنهج الغربي يصلح تطبيقه علينا في الشرق، فما دام أن هذا المنهج أعطى ثمارا جيدة هناك، فلِمَ لا نطبقه عندنا مادمنا متخلفين، وبعبارة أخرى لماذا لا نستورد الحضارة الغربية؟

الجواب: لا شك أن هنالك جوانب إيجابية في هذه الحضارة، ولكن سلبياتها لا تقل عن ايجابياتها، ونحن في غنى عن استيراد السلبيات التي هي جزء لا يتجزأ من نتائج المنهج الغربي، ليس فقط لأن السلبيات مضرة بالإنسان، وبالبيئة، وبالبشرية عموما، وإنما لأن تلك السلبيات من دون وجود الإيجابيات الموجودة في الغرب ستقضي علينا.

وأساسا ليس من الحكمة أن نأتي بمنهج لا يمت إلينا بصلة، وإن كانت نتائجة جيدة في بيئة معينة ونطبقه في بيئة أخرى، لأن ايجابياته ستختفي وسلبياته ستظهر.

المهم لابد من أن نتعرف على بذور الحضارة سواء الغربية أو غيرها، ثم نقوم بالاستفادة من البذور، لا ان نتشبث بالقشور.

————————————————–

  • مقتبس من كتاب أصول الحضارة بين روح القيم وبراعة الشكل

عن المؤلف

آية الله السيد هادي المدرسي

اترك تعليقا