أسوة حسنة

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) مَولِدُ الهُدَى وَإِنسَانُ الحَضَارَةِ الرَّاقِيَةِ

  • مقدمة إنسانية

خطر بذهني وأنا أحاول أن أكتب عن المولد الشريف، لأعظم مخلوق في هذا الوجود، أن أسالَ هذا السؤال: لماذا خلق الله الإنسان؟ ولماذا خلق أشرف وأكرم خلقه إنساناً وأنزله إلى هذه الدنيا التافهة، والتي تُعرف قيمتها من أسمها (دنيا)؛ أي سُفلى وكفى بها هجاء؟

ولكن أدبياتنا الإسلامية، وأخلاقنا القرآنية تُعلمنا أن الدُّنيا لم تُخلق لنفسها، وإنما خُلقت لأجل غيرها، فما هي إلا مرحلة، أو ممرَّاً، وطريقاً للوصول إلى ما هو أشرفُ وأكرمُ وأعظمُ منها، ولكن لا يمكن الوصول إلى باجتياز هذه الدنيا فهي (ممرٌّ لا مقرٌّ) بكلمة أمير المؤمنين، عليها السلام.

 

وفي الحديث القدسي: “كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن أُعرف فخلقتُ الخلق لكي أُعرف“، فالخلق بدأ بالمحبة، ولذا ورد في الروايات الشريفة: “وهل الدِّين إلا الحب؟!”، وإذا كان الخَلق بالحب، والدِّين هو الحب في الله، فمَنْ هو المحبوب الأول الذي خُلق كل هذا الخلق لأجله؟ هنا المسألة التي يجب أن نقفَ عندها لنعرفها، ونُعرِّف بها أيضاً.

 

أساس الدِّين الحق حب محمد وآل محمد، صلى الله عليه وآله، وهذا جار في الخلق من قبل أن يُخلقوا، وهو السبب بمحبة الله خالقهم وتقريبه لهم إلى ساحة قُدسه، وإدخالهم بعد الدنيا جنَّته خالدين فيها

 

  • أول مخلوق أكرم محبوب

هذا بحر عميق لا يستطيع أحد أن يخوضه أو أن يسبح فيه لأنه خارج عن طاقاتنا وقدراتنا كبشر خُلقنا من الضَّعف، ونحن محدودون في الزمان والمكان والقدرات كلها فلا يمكن أن نقف على ساحل بحر الوجود لولا أولئك الذين شَهدوه وشَهدوا عليه ونقلوا لنا بعض أوصاف وأكناف ذلك العالم المختلف تماماً عن عالم المادة والدنيا، فهو عالم الأنوار والأرواح والأشباح، وقد سأل جابر بن عبد الله رسول الله، صلى الله عليه وآله، فقال: “أول شيء خلق الله تعالى ما هو؟ فقال: نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل خير“، وفي رواية أكثر تفصيلاً، قال صلى الله عليه وآله : “أول ما خلق الله نوري ابتدعه من نوره واشتقَّه من جلال عظمته، فأقبل يطوف بالقُدرة حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة، ثم سجد لله تعظيماً ففتق منه نور علي، فكان نوري محيطاً بالعظمة ونور عليٌّ محيطاً بالقدرة، ثم خلق العرش واللوح والشمس وضوء النهار ونور الأبصار والعقل والمعرفة وأبصار العباد وأسماعهم وقلوبهم من نوري ونوري مشتق من نوره

مَنْ آمن بنا آمن بالله، ومَنْ ردَّ علينا ردَّ على الله، ومَنْ شكَّ فينا شكَّ في الله، ومَنْ عرفنا عرف الله، ومَنْ تولَّى عنَّا تولى عن الله، ومَنْ أطاعنا أطاع الله، ونحن الوسيلة إلى الله، والوصلة إلى رضوان الله، ولنا العصمة، والخلافة، والهداية، وفينا النبوة، والولاية، والإمامة، ونحن معدن الحِكمة، وباب الرَّحمة، وشجرة العصمة، ونحن كلمة التقوى، والمثل الأعلى، والحجة العظمى، والعروة الوثقى التي مَنْ تمسَّك بها نجا” (بحار الأنوار: ج ٢٥ص ٢٣).

 

فهذا الذي يُخبرنا به المخلوق المكرَّم والنور المعظَّم ولولا أنه أخبرنا به فمِن أين لنا أن نعرفه، أو نُدركه بهذا التفصيل الجميل وهذه الدِّقة والرِّقة؟ ولذا كانوا هم الحبُّ الأول، وحبهم أساس الدِّين كما في حديث رسول الله، صلى الله عليه وآله، لأبي ذر الغفاري: “لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ أَسَاسٌ، وَأَسَاسُ الْإِسْلَامِ حُبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ“. (بحار الأنوار: 74 ص 158).

 

فأساس الدِّين الحق حب محمد وآل محمد، صلى الله عليه وآله، وهذا جار في الخلق من قبل أن يُخلقوا، وهو السبب بمحبة الله خالقهم وتقريبه لهم إلى ساحة قُدسه، وإدخالهم بعد الدنيا جنَّته خالدين فيها، وهو ما جاء في حديث الكساء الشَّريف عن رب العالمين: “يا مَلائِكَتِي وَيا سُكَّانَ سَماواتِي، إنِّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنِيَّةً وَلا أرضاً مَدحِيَّةً وَلا قَمَراً مُنِيراً وَلا شَمساً مُضِيئَةً وَلا فَلَكاً يَدُورُ وَلا بَحراً يَجرِي وَلا فُلكاً يَسرِي إلاّ فِي مَحَبَّةِ هؤُلاءِ الخَمسَةِ الَّذِينَ هُم تَحتَ الكِساءِ“.

 

  • علَّة الخلق والإيجاد

فالكون خُلق لأجل هؤلاء الكرام على الله تعالى، فالله سبحانه أحبَّ أن يُعرف فخلق هؤلاء الأنوار وعرَّفهم نفسه القدوسية، لأن غيرهم لا يمكن أن يعرفوه سبحانه، وخلق هؤلاء الكرام ليُعرفوا في خلقه، ولكن لنَعرفَ هذه الذوات المقدسة على الإنسان أن يخرج من إنِّيته وذاتيته ونفسيته إلى ربه بإخلاص ويقين، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والعبادة والالتزام بكل ما جاء به رسول الله، من شرائع وأحكام، ولذا كان ميزان التفاضل التقوى، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، والتقوى تجسَّدت لحماً ودماً برسول الله، صلى الله عليه وآله وأهل بيته، فهم أكرم الخلق على الخالق.

وهم أحبهم إليه ولذا صات طاعتهم سبيلاً لمحبة الله قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. (آل عمران: 31)، وهذا ما جهلته هذه الأمة وأنكرته في واقعها العملي، مع إقرارها به في أدبياتها ونظرياتها، فأيقنوا بها وجحدتها أنفسهم كبني إسرائيل تماماً، قال سبحانه عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل: 14)، وهذه الأمة آمنت بمحمد وأهل بيته، عليهم السلام، ولكنها سعت بعده ليس لطاعتهم وأخذ معالم دينها منهم كما أمر الله ورسوله ولكن لإبادتهم وقتلهم تحت كل حجر ومدر للأسف، ورجعت إلى قريش بكل ما فيها من جهل وجاهلية ولكن بلباس إسلامي.

 

أين نجد الرَّحمة الالهية، وما هو مكمنها؟ إنَّها عند رسول الله، صلى الله عليه وآله، متمثلةً فيما جاء به من الرِّسالة، ونهجها الخالد العظيم، وأهدافها السَّامية النبيلة، فالعمل الجبار والمذهل الذي أنجزه النّبي، وما يزال يُنجزه عبر رسالته ونهجه الخالدَيْن، يتمثّل في أنه صنع من هذا الإنسان الذي كان يتحرك من أجل دنياه

 

وقد يقول قائل: أن العبادة هي علَّة الخلق والإيجاد كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، ونقول لهم: نعم؛ ولكن كيف يعبدون؟ أليس عن الطريق الذي حدده الله لهم، ألا وهو رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته الأطهار، وإلا كنا كإبليس الذي رفض السجود لآدم الذي أمر الله به، وأراد أن يعبد الله كما هو يُريد وليس كما الله يريد، فطرده ولعنه.

 

  • نبي الرَّحمةِ وطريقِها

فالواقع التاريخي يشهد على أن الأمة العربية كانت في غاية بؤسها، والإنسان فيها طُعمة الجوع والتخلف، أو الغزو والسيف، فالحق فيها ضائع، والقيمة للمنافع الشخصية للأقوياء والوجهاء، ويُتقى الإنسان فيهم لشرِّه وشراسته، وليس لأخلاقه وفضائله وقيمه.

ولذا عندما جاء رسول الله، صلى الله عليه وآله بالرسالة الإسلامية، ونزل عليه القرآن الحكيم بعثهم من تحت ذلك الرُّكام الرَّهيب الذي طال قرون، فغرقوا بالتخلف والجهل حتى سموا تلك الحقبة الجاهلية، فقام بهم رسول الله، صلى الله عليه وآله ، وكشف لهم عن تلك الطاقات الكامنة في نفوسهم، وأعلمهم بأنهم بشر ولهم رسالة في هذه الحياة، ومهمة في بناء الحضارة الإنسانية الراقية، وإذا لم يبنوا أنفسهم أولاً لن يستطيعوا أن يبنوا الحضارة التي يصبُون إليها، فنفضوا التراب عن رؤوسهم وساروا بركابه المبارك، فعلَّمهم وزكَّاهم وأطلقهم فانطلقوا كالمارد أوقظه النور، فنهض ليوقظ العالم أجمع.

 

  • واجبنا الرِّسالي اليوم

فالرحمن أرسل رحمة “إنما أنا رحمةٌ مهداة“، لهذا الإنسان ليرحمه لا ليُعذبه، وليرشده ويدلَّه إلى المكارم، والفضائل، والقيم، وكل تلك المنظومة التي جاء بها القرآن الحكيم، وجسَّدها الرسول الكريم، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته الأطهار، في هذه الحياة، فاستجاب الإنسان العربي لتلك الدَّعوة فصنع العجائب خلال عشر سنوات فقط، بحيث استطاع أن يبني أمة ويُنشئ حضارة راقية ناطحت الحضارات السائدة حينها وتغلبت عليها وأثبتت وجودها إلى اليوم.

 

والرسول، صلى الله عليه وآله، رحمةٌ للعالمين وليس للعرب أو المسلمين فقط، يقول المرجع السيد المدرسي (حفظه الله) مبيناً واجبنا تجاه هذه الرَّحمة: “علينا أن نسعى من أجل هداية البشرية كلّها بسيرة الرسول، صلى الله عليه وآله، الوضاءة، فأين دعوتنا هذه للعالَم؟ ولماذا لا نحمل هذا السِّراج المنير إلى جميع أرجاء العالم، خصوصاً تلك المناطق التي تبحث عن النور، والتي عانت ما عانت من الويلات والمآسي بسبب ضلالها؟”

 

إنّ الدعوة الآن إلى الرسالة التي سبق وأنْ حملها نبيّنا الأعظم محمد، صلى الله عليه وآله ، والعمل المنظَّم والدَّؤوب من أجل نشرها، يُمثلان واجباً أساسياً علينا تجاه الرَّسول الحبيب إلى قلوبنا، فالبشرية اليوم هي أحوج ما تكون إلى مَنْ يُصحح مسيرتها، ويهديها إلى سواء السبيل، ويُنقذها من أسر المذاهب الوضعية التي لم تجر عليها سوى المزيد من الأزمات والمشاكل على مختلف الأصعدة.

 

ثم يقول: “تُرى أين نجد هذه الرَّحمة، وما هو مكمنها؟ إنَّها عند رسول الله، صلى الله عليه وآله، متمثلةً فيما جاء به من الرِّسالة، ونهجها الخالد العظيم، وأهدافها السَّامية النبيلة، فالعمل الجبار والمذهل الذي أنجزه النّبي، وما يزال يُنجزه عبر رسالته ونهجه الخالدَيْن، يتمثّل في أنه صنع من هذا الإنسان الذي كان يتحرك من أجل دنياه، ومن منطلق شهواته ودوافعه الأنانية، صنع منه إنساناً يكاد يكون أنموذجاً في الأخلاق السَّامية، فإذا به عطوفٌ، رحيمٌ، كريمٌ، يُحبُّ الآخرين، ويُضحي من أجلهم، ويُحبُّ أُمَّته، ويُقدِّس عقيدته ومبادئه، ويحمل رسالة في الحياة”. (النبي محمد قدوة المؤمنين السيد محمد تقي المدرسي: ص110)

صلى الله عليك يا علم الهُدى وعلى آلك أعلام التُّقى..

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا