فکر و تنمیة

الإيحاء الذاتي في الفكر الإسلامي والفكر المعاصر

لقد بدأ الصراع مع الإسلام والصد عنه مع بزوغ إشعاعات شمسه الأولى، وتوالت الأفكار والمذاهب الفكرية التي راحت تشنُّ حروباً شعواء على الإسلام والمسلمين، على كافة الأصعدة الفكرية والسياسية والاجتماعية والحضارية. وقد انبهر بعض مدعي العلم والثقافة من أبناء هذه الأمة بالحضارة الغربية فراحوا يمجدونها ويدافعون عنها، ويدعون المسلمين إلى تقليد الغرب بكل شيء، و رضوا أن يكونوا دعاةً لأفكارهم المختلفة ويروِّجون لها، بدلا من ان ينشغلوا بفكرهم الإسلامي القيم، ويبحثوا في تراثهم الغني وينقبوا ويكتشفوا ما يتضمنه تراثهم الفكري من درر وجواهر، تدفع باتجاه تكامل الإنسان الذي هو هدف وغاية يدّعي الجميع في انه الأساس الصحيح لبلوغها.

ونحن لا نبطل ولا ننفي قيمة وفائدة فكر الأمم الأخرى إلا انه من الواجب علينا ان نعرف وأن نحيط الإحاطة الكاملة بما لدينا من فكر أسلامي قيّم، ومن ثم لأبأس أن نأخذ ما يفيدنا وما ينفعنا فيما يكفل كرامة الإنسان والوجود الإنساني، ومن هذا المنطلق ارتأينا أن نسلط الضوء على مفهوم (الإيحاء الذاتي)، الذي هو من المفاهيم التي أخذت مجالا واسعا في ميدان الفكر المعاصر وبعناوين مختلفة لاسيما في الصفوف والمكتبات التجارية، فضلا عن الورش ودورات التدريب التي تستهدف تغير الفكر والنظرة الى النفس وتصحيح ذلك من خلال خطوات وطرق مبرمجة توضع بشكل برنامج لتغير العادات.

وإن الباحث في تراث الفكر الإسلامي يجد أن هذا المفهوم، قد وظِّف توظيفا صريحا في التراث الإسلامي المتمثل بفكر أهل البيت عليهم السلام، ومن ذلك نفهم أن المعرفة أو الإحاطة بهذا المفهوم تمثل ضرورة لها أبعاد مختلفة على شخصية الفرد وتكوينه النفسي، وقبل التطرق الى هذ المفهوم كحد موضوعي، لابد لنا ان نعرف أننا ” نستعمل كلمة الإيحاء للدلالة على التأثير الذي تحدثه في سلوكنا، رسالة الى النفس تعتمد قوتها على اتجاهها المباشر الى وجدانياتنا. والإيحاء لا يكاد يتطلب شيئا من قوانا العاقلة، فهو لا يستثير النقد ولا الجدال، اذ انه قضية مقررة، صيغت بحيث نميل الى قبولها بغير تفكير؛ فنحن نستجيب لها بطريقة تلقائية تامة، لاتجاهها القوى الى انفعالاتنا، .. (ومما يوجب توضيح) أنه لا يوجد فرق سيكولوجي بين الإيحاء و الإيحاء الذاتي. فهذا إيحاء نوحيه لأنفسنا، وذاك يأتينا من مصدر خارج أنفسنا”(1) ومن ذلك يمكن تعريف الإيحاء على انه ” كل تجربة تستثير وجدانياتنا أو انفعالاتنا استثارة مباشرة. ويمكن ان يكون كلمة أو جملة، كما يمكن ان تكون الكلمة أو الجملة مكتوبة أو ملفوظة. ويمكن أن يكون شيئاً نراه أو حادثا نصادفه.

 

قد يصل بالإنسان الى مرحلة التعود فيقوم بترديد تلك الأفكار حتى تصبح جزءاً من أفكاره وقناعاته، وتكرار الإنسان للفكرة وتقبلها دون تمحيص دقيق ينتج لديه تصديق مطلق، وغير قابل للشك فيما رآه واقتنع به سواء عن نفسه أو عن غيره أو عن الحياة لذلك

 

 

أما الإيحاء الذاتي فيعرف على انه: إيحاء نحدثه لأنفسنا، وكل إيحاء يجب ان يظفر بموافقتنا الانفعالية، ويصير بذلك إيحاء ذاتيا، قبل ان يبدأ في التأثير في سلوكنا.

كما عُرّف الإيحاء الذاتي أيضا بأنه : “ما يقوله الإنسان أو يؤكده لنفسه عندما ينفعل مع نفسه، أو يتفاعل مع تقييمه الذاتي لأدائه” (2).

ومن الطبيعي يظهر لنا من التعريفين بان الإيحاء والإيحاء الذاتي له علاقة مؤثرة بأجسامنا إذا كان له الأثر على سلوكنا، وبذلك يعد الإيحاء الذاتي بمثابة الرسائل التي نودعها في ملفات خزن عقولنا أو ما يسمى بالعقل الباطن، ” وقد ثبّت علماء التشريح أن هناك اتصالا بين جزء من المخ باختزان الصور وبين النظام العصبي الحركي الذي يتحكم بالنشاط اللاإرادي مثل نبضات القلب والتنفس وضغط الدم، كما توجد اتصالات بين النظام العصبي الحركي والغدد، وهذا معناه ان الصور التي داخل عقولنا لها تأثير قوي على كل خلية في الجسد.

ويفهمنا هذا الارتباط بين العقل والجسد نستطيع تحسين هذا الأداء الجسدي لدينا من خلال التخيلات الجيدة للأفكار الايجابية”(3)،  فالقوة المهمة والمسيطرة على تحديد نوعية الإيحاء الذاتي هو تصورنا عن أنفسنا أو مستوى الثقة بأنفسنا، وهو ما يفسر قوة الفكر التي تحكمنا، وبذلك يخضع الإيحاء الذاتي الى طبيعة أفكارنا، أو ما نحمله من أفكار اتجاه الأشياء او المواقف، وبذلك يترسخ بداخلنا حسب فهمنا للفكرة التي تلقيناها أو تكونت بداخل عقولنا، فإن كانت ايجابية فستنعكس بشكل ايجابي على سلوكياتنا، وان كانت الفكرة سلبية ستنعكس بشكل سلبي.

وذلك ما يؤكده الإمام علي عليه السلام في قوله : “العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء”(4)، فالفكرة ما نوحي لأنفسنا بها وبذلك تشكل الصورة التي تحدد نتاج ما نحن عليه لأن ” ما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال هو في الحقيقة ترجمة لما في ذهنه من قناعات وأفكار عن ذاته وعمن حوله وعن الحياة عموما، وتتشكل تلك القناعات والأفكار جراء ما يتعرض له العقل الإنسان من مصادر التشكيل الداخلي والخارجي، فالتشكيل الخارجي مصادره متعددة: الأهل والأصدقاء والمدرسة ووسائل الأعلام، ولكن اشد تلك المصادر أهمية هو المصدر الداخلي لأنه يحدث ذاتيا وربما من غير أان يشعر به الإنسان طوال الوقت، ولا يستطيع الإنسان الهروب منه كما قد يفعل مع المصادر الخارجية.

ولأنه قد يصل بالإنسان الى مرحلة التعود فيقوم بترديد تلك الأفكار حتى تصبح جزءاً من أفكاره وقناعاته، وتكرار الإنسان للفكرة وتقبلها دون تمحيص دقيق ينتج لديه تصديق مطلق، وغير قابل للشك فيما رآه واقتنع به سواء عن نفسه أو عن غيره أو عن الحياة لذلك ارشد النبي، صلى الله عليه واله، أتباعه الى تعويد أنفسهم للحديث الايجابي عن الذات، وتنفيرهم من الحديث السلبي الذي يبرمج حياة الإنسان.

 

 يقول الإمام علي عليه السلام: “العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء”

 

وورد عنه، صلى الله عليه واله، أنه قال “لا يقولن أحدكم خبثت نفسي”. أي بمعنى نوحي لانفسنا ما هو ايجابي ونبتعد عن ما هو سلبي، وهو ما يفسر بُعدا من أبعاد حديثه صلى الله عليه واله: “تفاءلوا بالخير تجدوه”، لأن الإيحاء الذاتي الإيجابي أو التفاؤل بالخير سينعكس على وضع الإنسان نفسه، وأن التفاؤل يجعلنا نشعر بدنيا بحال أفضل، فالمتفائلون يعيشون بصحة أفضل من سواهم، لأن أجهزة المناعة لديهم تعمل بشكل أفضل لحمايتهم”.

ومما يؤكد دعوة النبي فيما يجب ان نلتفت به الى ما نوحي لذواتنا هو حديث ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه واله، دخل على أعرابي يعوده وكان النبي إذا دخل على مريض يعوده قال: “لا بأس طهور أن شاء الله”، فقال للأعرابي ذلك، فقال الأعرابي: “كلا بل هي حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور”، فقال النبي الأكرم: “فنعم اذاً”.(5)

نعم كانت الرسائل الايجابية من النبي صلى الله عليه واله، لعموم الناس فقد قال لهذا المريض (طهور..)، وهي رسالة ايجابية أراد أن يغير فيها حال الرجل المريض لكن الأعرابي أبى ان يتقبل هذه الرسالة الايجابية، فألّف لذاته رسالة سلبية تتمثل في الهلاك والموت من هذا المرض فأكد عليه النبي فأجابه : بنعم أذا، أي بمعنى ما كوّنه من صورة أو فكرة عن ذاته بهذا المرض هو ما سيحدث. ومما نجده وما يكشف لنا عن هذا المفهوم قول الإمام علي عليه السلام في الخطبة 103: “وكل متوقع آت”(6)، أي ما نكونه من توقعات هي عن أنفسنا وعن ما يحيط بنا هو ما يحدث، لأن فكر الإنسان بمثابة رسائل نطلقها عما حولنا، فإن كانت ايجابية فينجذب إليها ما هو ايجابي وأن كانت سلبية ينجذب إليها ما هو سلبي.

ومن هذا نفهم أن مفهوم الإيحاء الذاتي مفهوما مهما لما له من الأثر الذي ينعكس على شخصية الإنسان وواقعه|، وهو ما تأكد لنا من خلال الفكر الإسلامي والفكر المعاصر. ومن هنا نجد ضرورة التعامل مع هذا المفهوم تعاملا جديا بإدخاله ضمن المفاهيم العلمية التي يجب ان نغرسها كفكر تربوي ضمن المقررات أو المواد التعليمية ،التي تعنى بهذا الجانب، لنصنع جيلا ينتقي الأفكار وكل المدخلات الذهنية التي تنعكس على تكوين شخصيته بكافة أبعادها، لنكون أمة خيرها في مفكريها و أفكارها، وهو ما أكده الأمام الحسن عليه السلام بقوله “الفكر ابو كل خير وأمه”.(7)

—————————–

  • 1. فلتشر، بتر، الإيحاء الذاتي، ترجمة شكري محمد عياد، الناشر المصري، ط1، القاهرة،1947 ، ص7-11.
  • 2. الاسدي، ناصر حسين، حديث مع الشباب، مطبعة النجف الاشرف،ط1، العراق، 2012، ص27.
  • 3. الفقي إبراهيم، قوة العقل الباطن، ثمرات للنشر والتوزيع، ط1، 2011.ص26-39.
  • 4. المدرسي هادي، مفاتيح النجاح، الدار العربية للعلوم، ط3، بيروت، 2007،ص 29.
  • 5. الاسدي، ناصر، المصدر السابق، ص28.
  • 6. عبده، الشيخ محمد، نهج البلاغة، دار القارى للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، 2012، ص 171.
  • 7. المدرسي هادي، المصدر السابق،ص 32.

عن المؤلف

م.م حسين رشك خضير/ كلية التربية الأساسية/ جامعة ميسان

اترك تعليقا