إضاءات تدبریة

العلم يحقق الإيمان في الحياة

القرآن الكريم له اسلوب مبدع في طرح المفاهيم والحقائق، ومن المعلوم أنّ اللفظ يمثّل القالب الذي يتمّ من خلاله إيصال المعنى إلى الآخرين، وكلما أحسن …

 

{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَـهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَـتِ لَيْسَ بِخَارِج مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَـفِريِنَ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ}، (سورة الأنعام: 122)

 

-1-

القرآن الكريم له اسلوب مبدع في طرح المفاهيم والحقائق، ومن المعلوم أنّ اللفظ يمثّل القالب الذي يتمّ من خلاله إيصال المعنى إلى الآخرين، وكلما أحسن المتكلم أو الكاتب في انتقاء الألفاظ البليغة والعبارات الجميلة، كلما وصلت فكرته إلى الآخرين بسهولة؛ فهي إحدى مزايا القرآن الكريم تكمن في قوة بلاغته وشدة تأثيره اللغوي المؤثر، إضافة إلى الكلمات ذات الإيقاع الخاص، كل ذلك من أجل إيصال فكرته ورسالته الى الناس.

كما في الآية المباركة التي تضمنت هذا الإسلوب القرآني الجميل، إذ إنها لم تصدر حكما قاطعاً إلى الناس؛ بل عرضته على شكل قريب إلى التساؤل، تتناغم مع الوجدان وتتلاءم مع الفطرة السليمة، بحيث يمكن للمرء أن يصل إلى الحقيقة بنفسه، حينما يقول تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَـهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَـتِ لَيْسَ بِخَارِج مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَـفِريِنَ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ}، أي إن هذا التساؤل المتمثل بـ «أَوَ مَن» المتوجه إلى الناس، يجب الإجابة عليه، والذي يكون معطوفاً على «كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَـفِريِنَ» بمثابة الجواب بالمثال، وهو اسلوب ناجح من الناحية التربوية، يمكن لنا اتباعه في عملنا التربوي والتعليمي.

وإضافة إلى أسلوب الاستنطاق الذي استخدمته الآية نجدها وظّفت جملة من الدلالات اللغوية في الوصول إلى غرضها، فاستخدمت تعابير كنائية ومجازية، عندما شبهت الكفر بالموت والإيمان بالحياة، وهكذا فإنها استخدمت أسلوب المَثل {كَمَن مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَـتِ}.

 

-2-

فنحن أمام حقيقتين في هذه الآية، في تعبيرها المجازي: أن (الكفر موت، واللإيمان حياة)، والحقيقة الثانية: (الإيمان نور والكفر ظلمات).

التعبير الأول في صدر الآية {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَـهُ} إي إن الإنسان الكافر ميّت، وأنّه يحيا بالإيمان بالله، إذ ليس المقصود بالموت والحياة هنا معناهما الحقيقي، بل المعنى المجازي، فكُني بالكفر؛ لأنه ميّت القلب والروح والبصيرة، فإنّ حياة الإنسان ليست بالجسد ولا التمتع بملذّات الدنيا، فتكون كالحياة الحيوانيّة، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: «فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا»، (تَقَمُّمُهَا) أي التقاطها الأكل من أماكن القمامة.

إنّ الحياة الحقيقية هي حياة الروح التي تحيا بالإيمان، والفرح الحقيقي هو فرح القلب الذي ينبض بذكر الله ويعيش على حبه – تعالى -، يقول الدعاء: «إلهي.. بذكرك عاش قلبي»، ويقول الإمام الرضا، عليه السلام، في حديث قدسي عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: «قلب المؤمن يحويني»، فالقلب الذي لا يسكنه الله هو قلب ميت، والعقل الذي لا يعرف الله هو عقل يعيش في تيه وخيال وسبات عميق، لأنّ الله – تعالى – هو الذي يعطي الحياة معناها، ويعطي الإنسان معنى إنسانيته.

وأما التعبير الثاني – الحقيقة الثانية – التي تشير إليها الآية {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ في النَّاسِ}، أي إنّ الإيمان نور، في القلب، وفي العقل، وفي الحياة، أما الكفر فهو ظلمة، بل ظلمات، ظلمة للروح، وظلمة الفكر والعقل، وظلمة في الحياة.

فالمراد بالنور هنا الإيمان، وقيل العلم، لأن الجهل ظلمة بينما العلم يُهتدى به إلى الرشاد كما يُهتدى بالنور في الطرقات، وقيل: إنّ المراد بالنور هنا القرآن؛ علماً أنه لا تنافي بين المعاني الثلاثة (الإيمان، العلم، القرآن)، وإن كنا نرجح المعنى الأول بمقتضى ظهور الآية؛ ولكن لا مانع أن تكون المعاني الثلاثة مطلوبة بأجمعها بشكل أو بآخر، بيد أنها متداخلة في بيان ما يُراد؛ والنور – الإيمان – لا يكتمل بدون العلم والفقه، والإيمان الذي يدخل قلب الإنسان الجاهل قد يفارقه بسهولة، كما دخله بسهولة، ولذا فإنّنا نعتقد أنّ المدخل الصحيح إلى الإيمان هو طريق العلم، كما أنّ الإيمان وكذا العلم، لا يكتملان بغير القرآن ونوره وهديه.

 

-3-

كثيراً ما يستعمل القرآن «الموت» و»الحياة» بالمدلول المعنوي لهما لتمثيل الكفر والإِيمان، وهذا يدل على أنّ الإِيمان ليس مجرّد معتقدات جافة وطقوس دينية، بل هو بمثابة الروح التي تحل في النفوس الميتة غير المؤمنة، فتؤثر في جميع شؤونها، وتمنح العيون الرؤية، والآذان قدرة السمع، واللسان قوة البيان، والأطراف العزم على اداء النشاطات البناءة.

حيث إن النور في القلب يمنح الإِنسان الإِيمان بالله – تعالى- ليمنحه رؤية جديدة وواضحة، ويوسع من آفاق نظرته لتتجاوز إِطار حياته المادية إِلى عالم أرحب وأوسع، والآية الشريفة تصف النور الذي يكون لدى المؤمن بأنّه يمشي به في الناس، وليس المقصود به نوراً حسياً – كنور الكهرباء مثلاّ – يضيء أمامه ظلمة الليل وعتمته، فما المراد بهذا النور؟

المراد بكونه يمشي به في الناس – بحسب الظاهر – أنّ نور الإيمان يعطيه رؤية واضحة وبصيرة نافذة فلا تلتبس عليه الأمور، فيسير بين الناس ويعيش فيهم وسط اختلاف الآراء والأهواء وهو على بيّنة من أمره ومرتاح البال {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ..}، (سورة الطلاق: 1-2)، وفي بعض أدعية الصحيفة السجاديّة نجد أن الإمام السجاد، عليه السلام، يقول: «..وهب لي نوراً أمشي به من الناس واهتدي به في الظلال واستضيء به من الشكّ والشبهات»، لأنه متصل بالله وهو مصدر النور والأمن والإطمئنان.

والنور الذي نحصل عليه هنا في دار الدنيا وهو نور الإيمان الذي سيبقى ملازماً للمؤمن إلى يوم القيامة وسوف يكشف عنه ظلماتها وينجّيه من كل عقباتها وأهوالها وسيكون أنيسه في القبر ودليله في المحشر، ومن لا يعمل على امتلاك هذا النور في الدنيا؛ فعبثاً يحاول تحصيله في الآخرة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم…}، (سورة الحديد: 12)

ولما كان الإِيمان يدعو الإِنسان إِلى أن يبني نفسه، ويريها حقائق ما كان قادراً على إِدراكها قبل ذلك، إِنّه في ضوء هذا النّور يستطيع أن يميز مسيرة حياته بين الناس، وأنّ يصون نفسه ويحافظ عليها ويحصنها ضد ما يقع فيه الآخرون من المعاصي والآثام.

إِنْ ما نقرأه في الأحاديث الإِسلامية من أنّ «المؤمن ينظر بنور الله» إِشارة إِلى هذه الحقيقة، ومن ثم تقول الآية المباركة {كمن مَثَله في الظّلمات}، أي إن هؤلاء الذين يعيشون في الدنيا لكنهم يُحسبون من الأموات، إذ لم يبق من وجود هؤلاء الأفراد سوى شبح، أو تمثال، لهم هياكل خالية من الروح وأدمغة معطلة عن العمل.

لابد من الإشارة إلى نكتة تقول؛ إِن «النّور» الذي يُهتدى به المؤمنون جاء بصيغة المفرد، بينما «الظّلمات» التي يعيش فيها الكافرون جاءت بصيغة الجمع، وذلك لأنّ الإِيمان ليس سوى حقيقة واحدة، وهو يرمز إِلى الوحدة والتوحيد، بينما الكفر وعدم الإِيمان مدعاة للتشتت والتفرقة.

 

-4-

الإنسان قبل أن يمسه الهدى الإلهي كالميّت المحروم من نعمة الحياة، فإن آمن بربه إيمانا يرتضيه كان كمن أحياه الله بعد موته، وجعل له نورا يدور معه حيث دار يبصر في شعاعه خيره من شره ونفعه من ضره فيأخذ ما ينفعه و يدع ما يضره وهكذا يسير في مسير الحياة.

وأما الكافر فهو كمن وقع في ظلمات لا مخرج له منها ولا مناص له عنها ظلمة الموت وما بعد ذلك من ظلمات الجهل في مرحلة تمييز الخير من الشر والنافع من الضار.

إن الله سبحانه ينسب للإنسان المؤمن في كلامه حياة خالدة أبدية لا تنقطع بالموت الدنيوي هو فيها تحت ولاية الله محفوظ بكلاءته مصون بصيانته لا يمسه نصب ولا لغوب، ولا يذله شقاء ولا تعب، مستغرق في حب ربه مبتهج ببهجة القرب لا يرى إلا خيرا، ولا يواجه إلا سعادة وهو في أمن وسلام لا خوف معه ولا خطر، فيكون سعيداً في الدنيا ومبتهجاً في الآخرة نتيجة ما قدمه لله – تعالى – من الإيمان الصادق والقلب الحي؛ فإنه يرى ما لا يراه الناس، ويسمع ما لا يسمعونه، ويعقل ما لا يعقلونه، ويريد ما لا يريدونه، والإرادة عنده من الحياة هي منشأ الشعور، فللمؤمن مرتبة من الحياة ليست عند غيره.

عن المؤلف

الشيخ ماجد الطرفي

اترك تعليقا