غير مصنف

مجالس الطهر ومفخرة العصر

قال لقمان الحكيم لابنه: يا بني اختر المجالس على عينيك فإن رأيت قوما يذكرون الله عز وجل فاجلس معهم، فإنك إن تكن عالما يزيدوك علما، وإن كنت جاهلا علموك، ولعل الله أن يطلعهم برحمة فيعمك معهم، وإذا رأيت قوما …

قال لقمان الحكيم لابنه:

«يا بني اختر المجالس على عينيك فإن رأيت قوما يذكرون الله عز وجل فاجلس معهم، فإنك إن تكن عالما يزيدوك علما، وإن كنت جاهلا علموك، ولعل الله أن يطلعهم برحمة فيعمك معهم، وإذا رأيت قوما لا يذكرون الله فلا تجلس معهم، فإنك إن تكن عالما لا ينفعك علمك، وإن تكن جاهلا يزيدوك جهلا، ولعل الله أن يظلهم بعقوبة فيعمك معهم»

من هذه الوصية المباركة ننطلق لعالم اليوم ونقول:

في عالمنا نجد نماذج مختلفة وباعمار متعددة ممن يجالس من يقتل وقته بابشع الكلمات والاعمال؛ فتجد من يجلس ليتحدث بالحرام كالغيبة والنميمة والسخرية من الآخرين ليسري بعد ذلك بنفسه شعور بالنجاح والنشوة المزيفة بانه الأفضل بما انتقص من الآخرين، ثم يُشرّقُ ويُغرّبُ بالحديث لا لشيء إلا لانه يريد قضاء الوقت او التزود بمعلومات لاطائل من ورائها الاّ الفضول وتتبع العثرات.

 

  • مجالس مزدهرة

مع ذلك لا ننكر ان هنالك مجالسَ تزهو بذكر الله وبالثلة الطيبة من الأصدقاء ومن يكسبون الانسان المعلومة النافعة، وحسن السيرة والذكر، ولا نغفل عن ان هذه المجالس لها اثر كبير في نفسية الجالس بجلب التوفيقات من الله، وبتزويدنا بطاقة الجماعة والنظرة الالهية ومن ذلك نقرأ بدعاء ابي حمزة الثمالي عن الامام السجاد، عليه السلام:

«مـــالي كُلَّما قُلْتُ قَــدْ صَلَحَتْ سَريرَتي وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابينَ مَجْلِسي، عَرَضَتْ لي بَلِيَّةٌ اَزالَتْ قَدَمي، وَحالَتْ بَيْني وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ سَيِّدي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَني، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَني اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني مُسْتَخِفّاً بِحَقِّكَ فَاَقْصَيْتَني».

 

  • مجالس يحبها الله ورسوله

وتشعب من تلك الشجرة العظيمة المباركة مجالس الحسين، عليه السلام، والبكاء عليه مما لمس وتيقن وعرف الجميع من أجر وحثّ كبيرين حول عقدها وربما السبب الاكبر فيها هو عزاء خاتم الانبياء وسيد الاوصياء، وعظيمة الذكر في الارض والسماء فاطمة الزهراء – عليهم آلاف التحية والسلام – حيث قال – تعالى -: {..قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ..}. (سورة الشورى: 23)

والسؤال؛ كيف نظهر هذه المودة؟

المودة تعبير عمّا في القلب: كالخضوع، والخشوع، الإنسان يخشع قلبه؛ فيخضع ببدنه، الإنسان يحب يقلبه؛ فيظهر وده ببدنه وبأفعاله وقد أخبر رسـول الله، صلى الله عليه وآله، ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين وما يجري عليه من المحن؛ فبكت فاطمة بكاء شديداً وقالت، بعد أن كشف لها أن ذلك يكون في غياب منه ومنها ومن أبيه وأخيه الحسن، عليهم السلام: «يا أبت فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبي، صلى الله عليه وآله: «يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون علـى أهل بيـتي، ورجالهـم يبكون على رجال أهل بيتي ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل، في كل سنة …»(1).

 

  • من فيض الدموع

(من ذكره فبكى؛ فله الجنة)

البعض يستغرب عندما يمر على بعض الجزاءات غير المتوقعة لبعض الأعمال فيقول: لماذا هذا الجزاء العظيم على فعل بسيط؟ إنسان يبكي على الإمام الحسين، وهو عمل لا يحتاج إلى مؤونة كثيرة، أو مجاهدة؛ فكيف يُعطى هذا الأجر العظيم؟ أو يقيم مجلساً للعزاء فلا يستحق كل هذا الكرم والعطاء؟

أولاً: هذا لا على نحو الأجور، بل على نحو العطايا؛ والعطايا لا تخضع لقانون التناسب، الأمر إذا كان في دائرة الأجر فلابد من وجود تناسب بين الجهد وبين الأجرة المدفوعة، بينما القضية التي نحن بصددها فيها عطاء، وعلى سبيل المثال وليس المقارنة؛ وصلة الشعراء كانت موجودة طوال التاريخ، حتى خلفاء الجور عندما كان يمدحهم الشعراء، كانوا يعطونهم من الذهب والعقار والأراضي وغيرها، ما لا يتناسب أبدا مع الشعر المذكور.

ثانياً: الأمر بين يدي الله – عز وجل – فعندما يريد رب العالمين أن يبني للإنسان قصرا في الجنة، ان مراده لا يتخلف – جل جلاله – فما الفرق بين أن يريد رب العالمين قصرا، أو مائة قصر، أو ألف قصر؛ هو أراد فوُجد، لا عظيم بين يديه! فإذن؛ ما المانع أن يعطي رب العالمين لمن يبكي على سيد الشهداء من القصور والجنان ما يعطيه؟!

ولكن؛ ربما يقول البعض: مادمت بكيت على سيد الشهداء فان لي الجنة! وهذا غير مقبول لان معنى العزاء والبكاء يتجسد في مصاديق عملية في حياتنا منها:

1- إعلان عن نصرة الإسلام ونصرة نبي الإسلام وهو جد الحسين، عليهما السلام.

2- إعلان منّا السير على دينه ودين أبيه وجده المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم، مهما كلفنا من ثمن.

3- بيان ما جرى عليه، عليه السلام، وعلى أهل بيته وصحبه وعياله وأطفاله من انتهاكات وجرائم مأساوية تتنافى مع كل المبادئ الإنسانية والدينية.

4- رفض الخنوع والذل والخضوع للظلم والاضطهاد مهما عظمت قوته واشتد ساعده.

 

  • براعم حسينية

نعم؛ رضعنا حب الحسين، عليه السلام، من عوالم الذر ومن قبل أن يبرأ الله الخلق والخليقة، قبلنا وقلنا: نعم، نُحب الحسين، عليه السلام، بيد أن نقطة مهمة من الجدير التوقف عندها وهي تتعلق بمصاب الامام الحسين، بطفله الرضيع، الى جانب وقائع عاشورائه المؤلمة المفجعة التي ربما يتحملها الكبار لعظم وعمق الفاجعة، فكيف اذا اردنا نقل الصورة وتخفيف الفاجعة لاولادنا؟

يمكن ذلك بجرعة مناسبة لاعمارهم، كي لا تكون جرعة كبيرة تفوق مستوى استيعابهم، او توجد لهم صور ذهنية لعالم يعمّه الظلام مثل غابة تصول وتجول بها الوحوش.

فهناك مواقف من المهم التدرج بها معهم وصولاً للفاجعة، كاستشهاد الطفل الرضيع، واستشهاد القاسم عليه السلام، وقطع الرؤوس ،لان عقولهم وأعمارهم ومستوى إدراكهم قد لاتتسع لتخيل تلك البشاعة وذلك الاجرام.

ومن المهم الاستجابة لكل أسئلتهم الفطرية فيما اذا رأى مشاهد التشابيه وقطع الرؤوس، وإيصال الاجابة الشافية والكافية والملائمة، وإلا فمجرد البكاء وحضورهم المجالس غير كافٍ، وربما يكون سبباً لاضرار نفسية مستقبلية، أو قناعات سلبية تتكون لهم تكلفنا وقتاً طويلاً وجهداً كبيرأ لتغييرها.

لذا من المهم أن نهيّيء لهم مجالس حسينية خاصة بهم تتناسب مع اعمارهم ومداركهم ،كفرصة لارشادهم وتوجيههم وتوسيع مداركهم من خلال ذكرى عاشوراء، فسرد القصص والحكايات العاشورائية بصورة يفهمونها ويستسيغونها سيوفر لهم كماً معلومياً وروحيا صحيحا وعاليا.

 

  • من عبق المجالس النسوية

الكل يعلم ثقل المرأة وأهمية ثقافتها ووعيها الذي يكوّن ثقافة المجتمع بشكل عام، فهي الام والزوجة والاخت والصديقة والعاملة.

ولشهري العزاء؛ محرم وصفر حضور نسوي كبير ومكثّف في المجالس الحسينية، بإقامتها والارتواء من المعين الزينبي الحسيني المبارك.

فكم ستنهض هذه المجالس بواقع الامة أجمع لو أنها أعطت المرأة تلك الشحنات المضاعفة من الوعي والفكر والحراك والهدفية والتخطيط للحياة، خاصة إن كانت ممزوجة بالعَبرة والعِبرة عن الامام الحسين، عليه السلام، فهي ستوفر لها ذلك الزخم الحضاري والتوعوي الذي يقودها لتربية وتنشئة جيل بعيد عن الشبهات، ممتلئ بالهمة والعزيمة والإباء والإخاء العباسي المبارك كما شاهدنا رجال حشدنا المقدس العظيم إذ ترعرعوا بحجور الطهر الزينبي، ليكونوا إشعاع نور منبثق من رحم الامة لنشر العزة والفداء والاصلاح وعدم الرضا والركون للظالمين.

كل ذلك من بودقة الطهر وعنفوان الفخر مجالس الذكر الحسيني العاشورائي.

ولا ننسى كم التوكيدات الايجابية وترديدها في المجالس واثر ذلك في تثبيت العقيدة الحسينية في نفوس الحاضرات: «لبيك ياحسين، نحن أنصار الحسين، يا ابا الفضل، يازهراء».

كذلك؛ لا ننسى وقع تلك النوايا التغييرية العظيمة بحضور المرأة عزاءً للزهراء، عليها السلام، في مجلس ولدها وحبيبها الحسين، عليه السلام، فللنوايا دور لايخفى بتجديد سعي الانسان وفيض التوفيقات عليه خاصة انها نية انعقدت لحب سادة الارض والسماء وابواب الوصول لرضوان الله وجنانه، وهذا ما سيوجه المرأة الى الوعي ويأخذ بيديها الى التخلي عن أغلب الصفات التي تسبب لها ذلة وخجلا عند عين تلك الحبيبة العظيمة التي وهبتها الوعود بذلك العزاء المقدّس.

وايضاً تعينها على تحمل الصعوبات وبناء النشء الجديد الذي يرتضع حبا وولاءً من نبع الحسين، عليه السلام، ومن منحر الطفل وشباب علي الاكبر ومن عنفوان سكينة ومن مظلومية رقية، عليهم السلام.

نعم فتلك النفوس العظيمة حقّ لها أن تكون مدار الدهر وأنوار العصر وشجرة الفخر لكل زينبية حرّة أبية.

—————

  • (1) بحار الأنوار/ العلامة المجلسي/ ج44 ص292 ح37 ب34.

عن المؤلف

زهراء الأسدي

اترك تعليقا