هناك علاقة راسخة وحقيقية – موضوعاً ومفهوماً – وثابتة بين أمير المؤمنين، عليه السلام، والقرآن الكريم، حيث رافق نزول القرآن على النبي، صلَّى الله عليه وآله، ابتداءً من النداء السماوي الأول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، (سورة العلق: 1)، واستمرت تلك المرافقة في كل المواقف والأحداث والمواقع، التي نزل فيها وعلى ضوئها القرآن الكريم.
وقد اعتنى النبي، صلَّى الله عليه وآله، به عناية خاصة، وكان، عليه السلام، كثيراً ما يسأل النبي، صلَّى الله عليه وآله، وقد علّمه ألف باب من العلم كما هو المشهور في كتب الحديث والسيرة.
وقد خصه النبي، صلى الله عليه وآله، وعهد له بما لم يعهد لغيره.
نقل عن ابن عباس: «كنَّا نتحدَّث أنَّ النبي، صلَّى الله عليه وآله، عهد إلى علي سبعين عهداً لم يعهد إلى غيره».
وقد شهد له النبي، صلَّى الله عليه وآله، بأعلميته بالقرآن وعلاقته مع القرآن كما جاء في قوله، صلَّى الله عليه وآله: «علي أعلم الناس بالكتاب والسُّنّة».
وكانت جميع آيات القرآن قد أملاها النبي، صلَّى الله عليه وآله، على علي، عليه السلام، وخطّها علي، عليه السلام بيده؛ حيث قال: «.. كل آية أنزلها الله عز وجل على محمد، صلى الله عليه وآله، عندي بإملاء رسول الله، صلى الله عليه وآله، وخط يدي..»
التأويل والتنزيل
روي عن الأصبغ بن نباتة أنَّه قال: لمَّا بويع أمير المؤمنين، عليه السلام، بالخلافة، خرج إلى المسجد فقال: «سلوني قبل أن تفقدوني؛ فوالله إنَّي لأعلم بالقرآن وتأويله من كل مُدَّعٍ علمه، فوالذي فلق الحبَّة وبرأ النَّسَمة لو سألتموني عن آية لأخبرتكم بوقت نزولها وفيمَ نزلت».
وكان، عليه السلام، يعلم بجميع خصوصيَّات النزول من حيث الزمان والمكان كما قال: «والله، ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت». وقال: «سلوني عن كتاب الله، فإنَّه ليس من آيةٍ إلاّ وقد عرفت أبليلٍ نزلت أو بنهارٍ، في سهْلٍ أو جبلٍ».
الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه
كان أمير المؤمنين، عليه السلام، عالماً بالناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والخاص والعام، وكان ذلك من علم رسول الله، كما جاء في قوله، عليه السلام: «ما نزلت على رسول الله، صلَّى الله عليه وآله، آية إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ودعا الله لي أن يعطيني فهمها وحفظها؛ فما نسيت آية من كتاب الله – تعالى-، وعلماً أملاه عليَّ وكتبته منذ دعا الله لي».
الظاهر والباطن
إنَّ رسول الله، صلَّى الله عليه وآله، لم يُعلّم أحداً كما علّم أمير المؤمنين، عليه السلام، وهذه المؤهِّلات والقدرات غذَّاها ونمّاها، صلَّى الله عليه وآله، فيه، ومن ذلك تعليمه الظاهر والباطن؛ لأنَّ القرآن حمّال وجوه، قال ابن مسعود: «إنَّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلاّ وله ظهر وبطن، وإنَّ عليَّ بن أبي طالب، عليه السلام، عنده من الظاهر والباطن»، وقال ابن عباس: «والله، لقد أُعطي علي بن أبي طالب، عليه السلام، تسعة أعشار العلم، وأيُم الله لقد شارككم في العشر العاشر».
فقه القرآن
أمير المؤمنين، عليه السلام، له دراية كاملة في فقه القرآن الكريم؛ بالحلال والحرام، والأمر والنهي، والطاعة والمعصية، إذ قال، عليه السلام: «وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، كان أو يكون، ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية، إلاّ علّمنيه وحفَّظته، فلم أنسَ حرفاً واحداً، ثمَّ وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحُكماً ونوراً»، وبعلمه هذا استطاع أن ينقذ الكثير من المسلمين في الحدود والتعزيراتٍ من أحكام خاطئة وقاتلة احياناً، وقد قال فيه عمر بن الخطاب، مقولته الشهيرة: «لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن».
جمع القرآن الكريم
يظهر من الروايات الواردة من طرق أهل البيت، عليهم السلام، وغيرهم ان القرآن الكريم قد جُمع على عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، وكان ذلك في اوراق وصحائف متفرّقة جمعها الامام علي، عليه السلام، ورتّبها بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وآله؛ وحديث الثقلين خير دليل، قال، صلى الله عليه وآله: «اني تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي اهل بيتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا»ً.
ومن المعلوم انه كان هناك كتاب مكتوب عند المسلمين، ويبقى هذا الكتاب الى الابد، وليس المقصود ما كان في صدور المسلمين، لأنه يُفنى بموتهم، ولم يبق الى يوم القيامة، ويظهر من الحديث ان النبي، صلى الله عليه وآله جمع القرآن ورتبه سورة بعد سورة، وآية بعد آية بأمر من الله – تعالى-، ثم اودع ذلك عند المسلمين مع العترة الطاهرة وخصوصاً على يد أمير المؤمنين عليه السلام.
وجاء في تفسير القمي بسنده عن الامام الصادق، عليه السلام، قال: ان رسول الله، صلى الله عليه وآله، قال لعلي: يا علي، القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس، فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة، فانطلق علي فجمعه في ثوب اصغر ثم ختم عليه في بيته وقال: لا ارتدي حتى اجمعه، وان كان الرجل ليأتيه فيخرج اليه بغير رداء حتى جمعه، وبهذا يتضح أن أمير المؤمنين، عليه السلام، كان أول من جمع القرآن، وكان يحفظه عن قلب.
التمسك بالقرآن
من أجل ربط الأُمّة بالقرآن الكريم والالتزام بما جاء فيه من مفاهيم وقيم وأحكام وأخلاق، أمر الإمام، عليه السلام، الأُمّة بالتمسك بالقرآن والالتصاق به وجَعْله دستوراً في الحياة، كما روي عن أمير المؤمنين، عليه السلام: «ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، ولَنْ يَنْطِقَ، ولَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: أَلا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي، والْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، ودَوَاءَ دَائِكُمْ، ونَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ».
ويوجِّه، عليه السلام، الأُمّة إلى دور القرآن الكريم، فهو الناصح الهادي، وهو الشافي من أمراض العقيدة، وهو الشافع المشفَّع، وهو المقياس للآراء، فيقول: «واعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُو النَّاصِحُ الَّذِي لا يَغُشُّ، والْهَادِي الَّذِي لا يُضِلُّ فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وهُو: الْكُفْرُ والنِّفَاقُ والْغَيُّ والضَّلالُ واعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ واسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ، واسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، واتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ».
وخلاصة القول:
إنَّ الإمام علياً، عليه السلام، كان عبارة عن قرآن يسير على الأرض، وكان معه في كل مراحل مسيرته، وقد بذل جهداً في حفظه وتأويله وتفسيره، ونَشْر ما جاء فيه من أحكام ومفاهيم، واتخذه دستوراً له في جميع أعماله ونشاطاته، حتى أصبح هو القرآن الناطق الذي يجب اتباعه، مصداقاً للحديث الشريف عن رسول الله، صلَّى الله عليه وآله: «إنِّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً … هم حبل الله المتين وصراطه المستقيم».