اذا عرفنا أن الصفات الاخلاقية للفرد تترك أثرها في نسيج العلاقات مع سائر افراد المجتمع، مثل الصدق، والأمانة، وحسن الحديث، فهل يمكن للصفات الروحية الخاصة مثل الايمان وتقوى النفس، والزهد، أن تترك أثراً مشابهاً؟
ثمة مقولة متداولة تدعو الى حصر الصفات الروحية في حدود شخصية الفرد، وأن “الزَيَن، زينٌ لنفسه”، وربما المقصود ليس سلبياً، بقدر ما هو تجنب حالة التقاطع والتدابر الحاصلة بين اصحاب الصفات المتعارضة، عندما يريد كل فرد فرض شخصيته على الآخر، وهذا من حيث المخرجات والواقع الذي نعيشه، ربما يكون مبرراً من وجه، ولكن الاطار الأوسع للعلاقات الاجتماعية يستدعي تظافر جهود وامكانات مختلفة، لاسيما الثقافية منها، لتقويم ما اعوجّ من السلوك والعادات والثقافة العامة للمجتمع.
-
كيف تكون التقوى مؤثرة؟
التقوى؛ تعني تجنب الانسان ما يمكن فعله وبدوافع مختلفة، فهو يتقي سلك الكهرباء غير المغلف خشية الصعقة، واحياناً التسبب بالموت، كما يتقي كل ما يلحق به الضرر، حتى وإن كانت أشعة الشمس التي تضرب عينيه وهو خلف مقود سيارته، وهو في كل ذلك يبغي تحقيق المصلحة الشخصية، ثم جاء القرآن الكريم ليكشف للانسان أن هناك تقوى أوسع بعداً، وأعظم فائدة له، وهي؛ تقوى الله ـ تعالى- هذه التقوى لا تقيه حر الشمس للحظات، ولا تضمن له السلامة –مثلاً- لفترة معينة، وإنما تضمن له الحياة السعيدة في الحياة الدنيا، والفلاح في الحياة الآخرة.
هذا النوع من التقوى، من شأنه تقويم سلوك الانسان عندما يكون على حذر من جملة محارم الله ـ تعالى- وهي جميعاً لها مدخلية في العلاقات الاجتماعية، فالذي يتقي الله، هو ذلك الذي لا يمد عينيه الى ما حرّم الله، ولا يأكل المال الحرام، ولا يظلم أحد بأي شكل من الاشكال، ولكن! هذه التقوى ليست مثل سائر انواع التقوى التي يمارسها الانسان والمبنية على الحاجة وردود الفعل الطبيعية، وربما إن لم يتقِ في حالات معينة يكون ملوماً في المجتمع، بينما تقوى الله ـ تعالى- تتميز بالعلاقة المميزة بين العبد و ربه، لذا يجب ان تكون على اساس الإيمان الراسخ في القلب، وليس استجابة للأجواء الايمانية العامة في المجتمع.
لذا نجد علماء الاخلاق يدعون اصحاب الملكات الاخلاقية من اجل تنميتها في النفس، خوض غمار الاختبارات لمزيد من الصقل والنمو، معتمدين الإرادة والعزيمة على أنجاح المهمة، مثال ذلك؛ الصيام المستحب خلال أيام السنة، الى جانب أيام شهر رمضان المبارك، تطبيقاً للآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وأن يدخل الانسان في ثنايا المجتمع، يساعد، وينفق، وينصح، بل ويخرج من الاطار الجغرافي الديني الذي يعيش فيه، ويجرب الأجواء الاخرى، وربما يكون السفر خارج البلاد واحدة من هذه التجارب، مذكراً نفسه دوماً بأنه في طور الاعداد المستمر لتنمية هذه الملكة الروحية والاخلاقية.
-
محور العلاقات الاجتماعية النظيفة
في هذه المرحلة بامكان المجتمع الاطئمنان الى انه يضم بين جنباته شريحة لابأس بها من المتقين ـ ولو بنسب متفاوتة- فتكون مسؤوليته واضحة في الاهتمام بهذه الشريحة ومحاولة توسيع نطاقها، وعدم حصرها في اشخاص معينيين، او ببقاع معينة.
ولمن يقرأ القرآن الكريم ويتأمل في مفردة التقوى في مواضع وسياقات عدّة، تتضح له أهمية هذه الصفة العظيمة وكيف أن القرآن والاسلام يعدها من ركائز المجتمع الناجح والمتقدم، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}، فالتقوى هنا تمثل مصدر النسيج الاجتماعي، حيث التواصل، والتواصي، والبر، والثقة، كما نجد العدالة أحد افرازات التقوى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، وفي آية اخرى يجعل القرآن الخير والرفاه والسعادة مبنية على اساس التقوى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، بل وحتى الفرائض الدينية مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج، كلها مرتكزة على التقوى، ومدى قوتها في الفرد وفي المجتمع في آن.
وما يلفتنا اليه القرآن الكريم أن التقوى ليست صفة روحية خاصة بالفرد، بقدر ما هي “تيار اجتماعي يعيش ضمن مجموعة متفاعلة مع بعضها، {هدى للمُتَقين}، {وموعظة للمتقين}، {والعَاقبةُ للمتقين}، وغيرها كثير، وليست العاقبة، او الهدى للانسان المتقي فقط، (كتاب؛ قيم التقدم في المجتمع الاسلامي- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
ونفس الخطاب نجده في روايات المعصومين، عليهم السلام، وهي تؤكد على ضرورة ان يكون التقوى ثقافة اجتماعية، وليست صفة فردية، فقد جاء عن الامام الباقر عن جده أمير المؤمنين، علهيما السلام: “ان لأهل التقوى علامات يُعرفون بها؛ صدق الحديث، وأداء الامانة، و الوفاء بالعهد، وقلة العجز والبخل، وصلة الارحام، ورحمة الضعفاء”، وجاء في نهج البلاغة: “كم من صائم ليس له صيامه إلا الجوع والضمأ، وكم من قائم ليس من قيامه إلا السهر والعناء، حبذا نوم الاكياس وافطارهم”، بما يعني ” ان المجتمع الاسلامي لا يقوم على اساس كثرة الصيام والقيام، إنما على روح العمل وهو التقوى، أن يبكي الانسان من خوف الله، هذا وحده ليس بقتوى، وإنما التقوى أن يحطم الانسان في قلبه الحواجز التي لا تدعه يفهم الحقائق ويؤمن بها، ولا تدعه يوفق أعماله وفق مناهج الله سبحانه وتعالى”.
وعندما تشكو الشعوب الاسلامية اليوم، ولاسيما الشعب العراقي عن ظاهرة سيئة وخطيرة مثل “الفساد” علينا قبل الحديث عن مكافحتها وشن الحروب للقضاء عليها، أن نعرف منشأها وجذورها، وإلا فهي مثل الشجرة وسط الطريق، لن تمضي فترة على قطعها إلا واخضرت ثانية وعادت شجرة من جديد بفضل جذورها تحت الارض التي تتغذي بكل عوامل البقاء والنمو.
لذا علينا تنمية ملكة التقوى في النفوس ليكون لدينا مجتمعاً، ليس بالضرورة ان يكون كل افراده من المتقين بدرجة “همّام” صاحب أمير المؤمنين، عليه السلام، وإنما بدرجة تحكيم القيم الاخلاقية والدينية في المجتمع، ومحاربة الفساد والانحراف بشكل حقيقي، ثم تقديم البديل الأفضل.