لاريب أن استشعار الانسان بالجمال في الحياة، يبعث في نفسه الارتياح وتساعده على تعزيز الروح الايجابية، وإحياء الامل بالتغلب على المشكلات والازمات، وينقسم هذا الشعور الى حالتين مختلفتين تعيشها الأمم والشعوب، فهنالك من يعتقد أن الاستشعار هذا، يكون مادياً، من خلال الحواس الخمس، وهنالك من يعتقد بأن الاولوية للروح ولنفس الانسان، قبل ان يكون للحواس الخمس نصيبٌ من هذا الشعور الذي لابد منه.
ويذهب البعض الى ان الجمال، ما يستشعره الانسان بحواسه من مصادر عدّة في حياته، مثلاً؛ المرأة يمكن ان تكون مصدراً للجمال، وايضاً؛ هندام الرجل، بملابسه النظيفة والانيقة المتناسقة الالوان، وشعره المصفف، يضاف اليه الطيب (العطر)، وكذا الحال في الطبيعة، وما تضمه من اشجار وأنهار وجبال، بل لون السماء الازرق نهاراً، وحلكته المشحونة بالنجوم ليلاً تشكل لوحة من أروع ما في الطبيعة مما يأسر قلب الانسان.
بيد أن هذا الجمال الظاهري (المادي) بإمكانه ان يخترق حياة الانسان ويؤثر في سلوكه وعاداته وحتى طريقة تفكيره، عندما ينمي الانسان في نفسه الجمال المعنوي بما يشكل لديه «الحسّ الجمالي»، كما وصفه المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي في كتابه «معالم الحضارة الاسلامية»، الذي عدّ هذا الحسّ من «الابعاد الحقيقية لوعي الانسان، فالانسان المتكامل هو الذي يتحسس ويتذوق، وهو الذي يبحث عن الجمال ويتلذذ به».
-
الجمال في الكتاب والسنّة
جاء في الآية الكريمة من سورة الاعراف: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، (سورة الأعراف: 31)، كما ورد عن الأئمة المعصومين، عليهم السلام، تأكيدات عدة على التطيّب والعناية بالجسم والشعر، وبشكل عام؛ ظاهر الانسان، ولعل من أرقى ما نقرأ في تراثنا في هذا المجال؛ الحديث النبوي: «أحب من دنياكم ثلاثاً؛ الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة»، وهذا الحديث الشريف يختزل جميع أبعاد الجمال النفسي والروحي الذي يدعو اليه المعصومون، عليهم السلام، في احاديثهم ووصاياهم الاجتماعية، فعندما نعمم الجمال على جميع جوانب حياتنا، فتكون بيوتنا جميلة، وكذلك المساجد والشوارع، وايضاً مظهرنا الخارجي، نكون قد أوجدنا في انفسنا الحسّ الجمالي، وعندما نزرع الجمال في كل بقعة من بقاع بيوتنا ومدننا، فان قلوبنا ستكون جميلة ايضاً، وحينئذ سنعرف معنى الصدق والوفاء وحب الآخرين، لان قلوبنا ستتألق – في هذه الحالة – بالجمال، فقد تربت ونمت وتكاملت بالجمال.
-
جمال الكلمة
من مصاديق الجمال المعنوي الذي يثيره الاحساس النفسي بالجمال؛ جمال الكلمة، وما يتفوه به الانسان من طيب الكلام، وحلو الحديث، وتضمينه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولذا جاءت التأكيدات في الكتاب والسنة الشريفة على أن يكون اللسان من مظاهر الجمال لقدرته الفائقة على ذلك، كما له القدرة على أن يكون من مظاهر القبح في الانسان.
يبقى الأمر على اختيار الانسان للمفردات الجميلة في معناها وفي بلاغتها وما لها من الوقع على الآذان والنفوس، كما يقول عزّ من قال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}، (سورة الاسراء، 53)، أي ان الانسان عليه أن يبحث عن الأحسن من الكلام، وليس الافضل فقط، فحتى لو كانت هناك كلمتان؛ أحدهما حسنة والأخرى أحسن، فان علينا اختيار الثانية على الاولى.
وفي كتابه؛ معالم الحضارة الاسلامية، يقول المرجع المدرسي: «ان هذا الاحساس ينمي في ذاتنا روح الجمال؛ فالكلمة الطيبة والخلق الحسن هما انعكاس لجمال الروح، وجمال الروح يفرزه الجمال الظاهري، فعندما يكون الانسان في جو مشبع بالطهارة والنظافة والجمال، فان روحه ستكون ايضاً جميلة، كما أن اخلاقه التي هي انعكاس لروحه التي تكون هي الاخرى ذات اخلاق جذابة وجميلة.
وما دمنا في سياق الحديث عن العلاقة بين الحسّ الجمالي وبين الحالة الحضارية في المجتمعات والأمم، لنا ان نسترجع الحالة الاجتماعية للمجتمع الاسلامي الاول، وكيف كان منهجهم الغالب في الحديث فيما بينهم، وعندما نقرأ عن اصطدام الأئمة المعصومين، عليهم السلام، بالمخالفين او المعارضين لهم، نجد أن الآخرين يتلون الآية الكريمة: {…اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، (سورة الأنعام: 124) ويختمون بها حديثهم وهم معتذرون نادمون لما صدر عنهم من تهجّم وإساءات لهم، عليهم السلام.
ومما نلحظه من التاريخ أن المجتمعات الاسلامية الاولى، كانت تولي عناية فائقة بجمال الكلمة، ولعل لهذا امتداداً في جذور المجتمع العربي قبل الاسلام، حيث كان يتميز باهتمامه بالفصاحة والبلاغة والشعر، وانعكس هذا على حياة المجتمع بعد الاسلام، لتكون الكلمة الجميلة متجسدة في الآيات القرآنية وأحاديث النبي الأكرم، وخطب أمير المؤمنين، وايضاً احاديث وروايات الأئمة التي وصلنا منها النزر اليسير، مع ذلك فهي تمثل بالنسبة لنا الإرث العظيم والكنز الكبير الذي يرفد الفقه والآداب والعلوم وكل ما يتعلق بحياة الانسان.
-
القرآن الكريم، آية الجمال
ومن ابرز وأعظم الامثلة على جمال الكلمة، الآيات الكريمة في القرآن الذي يحمل الكثير من المفردات والاساليب الجمالية في بيان الاحكام والعبر والدروس، وعن هذا يقول مؤلف «معالم الحضارة الاسلامية» إن «البيان القرآني مبني اساساً على جمال التعبير والتصوير الى درجة أنه يقع في أعلى مستويات الحسن والجمال»، ومن ذلك الآية الكريمة التي تتحدث عن حالة سلبية كانت دارجة عند الجاهليين وهي الحديث بصوت مرتفع لمناداة شخص في بيته، وبهذا الاسلوب كانوا ينادون النبي الأكرم ليخرج اليهم من بيته: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، (سورة الحجرات:4)، وفي سورة الحجرات وصايا مؤكدة وواضحة على التزام الأدب والاخلاق في محادثة النبي الأكرم، وفي هذه الآية الكريمة يصف القرآن أولئك الذين يمارسون العادة الجاهلية مع النبي، بأن {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، ما يدل على الأدب القرآني الرفيع في معالجة هذه الحالة الاجتماعية السيئة والمتجذرة في المجتمع الاسلامي الاول، وإلا لو اراد شخص التعبير عن الواقع، فان جميع أولئك لا يعقلون، بحكم مخالفتهم الآداب والاخلاق التي جاءت بها السماء للانسان.
من يتلُ القرآن الكريم بتأنٍ وتمعّن، يجد نظير هذه الآية الكريمة فيما يتعلق بالآداب والاخلاق والحديث عن حياة الشعوب والانبياء وايضاً الاحكام الشرعية، بما يتناسب مع ذوق الانسان وفطرته المحبة للجمال والرقة.
وهذا يدعونا لان نحذو حذو القرآن الكريم في اختيار الكلمات والتعابير ذات الجمالية والجاذبية للمستمع مما تجعلها ذات تأثير على الطرف المقابل، لاسيما في سياق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبداء الملاحظات والانتقادات، فضلاً عن إسداء الشكر والتقدير لذوي الفضل والاحسان.
وبالمحصلة؛ كلما تكاملت عناصر الجمال في مجتمع وأمة، كلما تكاملت فيه مكونات التحضّر وتوفرت لديها أدوات التقدم والتطور، يكفي أن نلاحظ مسألة النظافة الظاهرية التي تفتخر بها بعض الشعوب في العالم، ومنها الشعب الياباني – مثلاً – حتى جعله عنواناً له خلال مباريات كأس العالم لكرة القدم التي أقيمت في روسيا مؤخراً، ليتميز بين سائر المشجعين القادمين في مختلف بلاد العالم بأنه الاكثر حرصاً على النظافة، فقد نشرت مقاطع مسجلة لمشجعين يابانيين وهم ينظفون أماكن جلوسهم في الملعب، كما ان افراد المنتخب الوطني نفسه، أجرى مسحاً كاملاً على جناحه الخاص وأماكن تبديل الملابس والاستراحة، بأن أعادوه بأحسن ما كان قبل استخدامه.
وهذا ليس سوى مثل بسيط على دور الجمال الظاهري (النظافة) في تقدم أي شعب بالعالم، فلو كان اليابانيون – مثلاً – غارقين في النفايات والمياه الآسنة والبقع النتنة في الاحياء السكنية، هل كان بمقدورهم إبهار العالم بكل تلك التقنية العالية والساحرة والصناعات المختلفة في سني السبعينات والثمانينات تحديداً؟
من هنا كان «الحسّ الجمالي يشكل جانباً مهماً من جوانب الحضارة، وهو يتجلى – أول ما يتجلّى – في الطهر والنقاء والنظافة»، وهو يفسّر لنا سرّ تأكيد الاسلام على النظافة كأحد عناوين الجمال الانساني، فقد وردت الروايات والاحاديث وقبل ذلك الآيات القرآنية، في عدم الاكتراث بالمال والبنين والتشبث بهما، كما وردت التوصيات بمقاومة النزعات النفسية وترويض النفس وتقويمها، أما مسألة النظافة والحسّ الجمالي فان الاسلام أوصى بالاهتمام بهما والحفاظ عليهما.