لا يخفى على احد ما للتربية السليمة للانسان من اثر بالغ على كل نواحي الحياة على مستوى الفرد والمجتمع، فهي قاعدة التقدم والتحضر الروحي والمادي على حد سواء، ولهذا نرى ان الاسلام اهتم بها اهتماما ما بعده اهتمام، كذلك نرى الشعوب المتحضرة تبذل الجهود الجبارة؛ لضمان استمرار تحضرها وتقدمها المادي والانساني.
والى جانب اهميتها البالغة، فان التربية قضية في غاية الصعوبة، كونها تتعلق بالنفس الانسانية من جهة، ومعلوم كم هو أمر صعب ان تضع برامج موحدة لنفوس غالبية افراد المجتمع، ومن جهة اخرى، فان عملية التربية تتأثر بعوامل كثيرة بدءاً من طعام الوالدين حين انعقاد النطفة بالبويضة، مرورا بفترة الحمل وسنوات العمر الاولى، وصولا الى المدرسة والجامعة والمحيط والاعلام والوضع الاقتصادي والتكنلوجي وغيرها.
ورغم تخلفنا عن غيرنا في كثير من ادوات التربية، فاننا نمتلك عوامل قوة كثيرة اخرى لا تملكها أي أمة اخرى متمثلة بشبكة واسعة من المساجد، وعدد كبير من رجال الدين، والمنابر والخطباء، وتراث ضخم وهائل من الوصايا والبرامج التربوية التي تخلو منها أي أمة اخرى، متمثلة بالقرآن العظيم وسيرة النبي وآل بيته الكرام، عليه وعليهم صلوات الله، فصار لزاما علينا ان نستثمر كل عناصر القوة لخدمة المسيرة التربوية في بلداننا.
ان مجتمعاتنا وان تلوثت شكليا لكنها مازالت تحتفظ بتلك الروح النقية، غير ان هذا الامر لن يطول كثيرا فينبغي بنا المسارعة قبل فوات الاوان.
-
التربية مسؤولية من؟
هناك عدة جهات تتحمل مسؤولية التربية هي:
1- المؤسسة الدينية
تمتلك المؤسسة الدينية الكثير من مقومات وأدوات غرس قيم التربية السليمة في المجتمع، من خلال منظومة واسعة من المساجد، وعدد لابأس به من طلبة العلوم الدينية القادرين على تحمل مسؤولية التربية، بعد اخضاعهم لدورات تطويرية سريعة ومكثفة، كما ان لها القدرة على استحداث مراكز تربوية ومؤسسات اعلامية وثقافية، ومراكز دراسات تربوية تخصصية، وهكذا؛ فهي تمتلك مقومات النهوض بهذه المسؤولية العظيمة. وما عليها إلا ان تعي حقيقة امكاناتها الكبيرة، وان تقوم بتأهيل طلابها ومساجدها للقيام بهذا الدور العظيم، كما توفر المواكب والهيئات الحسينية فرصة عظيمة لاستخدامها كأداة في الغرس التربوي والثقافي فهي تنظيمات جاهزة ومنتشرة في كل زقاق وتتوفر فيها امكانات لابأس بها ولا تحتاج الا الى التأهيل والاعداد للعملية التربوية، والانتقال بها من الاقتصار على تقديم الخدمات المادية الى القيام بمسؤوليات الغرس الثقافي والتربوي في محيطها الاجتماعي.
2- الاعلام
تنتشر في بلداننا مئات الآلاف من وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، غير ان الغريب فيها انها جميعا – إلا مارحم ربي – لا تبث إلا المحتوى غير التربوي، حتى ان وسائل الاعلام الخبرية تراها تقوم بهدم العملية التربوية بابتعادها عن المعايير الاخلاقية والتربوية في تعاطيها مع الخبر، ناهيك عن وسائل الميوعة والتعرّي، حتى اصبحنا لا نرى قناة معينة تلبي الحاجات التربوية للعائلة المسلمة، بل حتى ان وسائل الاعلام الدينية لا تلبي هذه الحاجة فبرامجها فقيرة جدا، ولا تسد من الحاجات الحضارية للانسان الا القليل القليل فضلاً عن فقر هذا القليل!
3- السينما والمسرح
رغم ان السينما والمسرح اليوم هما صناعة تجارية، الا انها اليوم تمثل احدى اهم وسائل الغرس الثقافي والتربوي الفعال، فهي تركز على غرس ثقافات وقيم تربوية متعددة وفي كل الاتجاهات، فبعضها ايجابي والبعض الآخر سلبي، غير ان المتابع لنتاجات السينما والمسرح في اغلب البلدان الاسلامية يرى اعمالا فنية هابطة، تشيع ثقافة الهدم وتهدم مقومات التربية في مجتمعاتنا، وكأنها أعمالٌ فنية لغير المسلمين، فهي في حقيقتها محاكاة لاعمال فنية سلبية لثقافات هابطة مستعارة ومستوردة من الغير، وياليتنا حاكينا كل اعمالهم صالحها وطالحها اذ ان استعارتنا اقتصرت على الطالح فقط الا ماندر.
ان المتتبع للسينما والدراما والمسرح العراقي مثلا، يجد ان السمة البارزة فيها هي الاعمال التجارية الهابطة التي تركز على الصياح والالفاظ النابية غير المؤدبة، والتي لاتغرس اي ثقافة، ولاتعطي اي رؤية ثقافية او تربوية حقيقية، فهي قائمة على التهريج والصياح والنياح. وما احوجنا اليوم الى سينما ودراما ومسرح تعرض لقضايا تربوية تغرس القيم والثقافة السليمة، وتركز على علاج عيوب التربية في مجتمعاتنا، وان يكون لها اهداف ورؤية واضحة تصب في مصلحة البناء التربوي في المجتمع.
4- وزارة الثقافة
تحتل المؤسسة الحكومية موقع الصدارة في تحمل مسؤولية التربية والتعليم بما تمتلكه من الامكانات البشرية والمالية والتنظيمية وسيطرتها على القرار، فهي تدير الوزارات المعنية بشأن التربية والتعليم والاعلام والثقافة والاتصالات، والغريب في الامر اننا لانرى في نشاطات وزارة الثقافة اي بعد ثقافي وتربوي، فأغلب ماتقوم به من نشاطات هو مخالف للاسس التربوية الا ما ندر.
وقد يقول قائل ان التربية ليست من عمل وزارة الثقافة، وفي معرض الرد: ان الثقافة والسلوك الثقافي هو تربية اولا وقبل كل شيء، واما المظاهر والفعاليات التي تقوم بها وزارة الثقافة فهي في حقيقتها سلوكيات غير ثقافية البتة لا من قريب ولا بعيد، فالسلوك الثقافي هو سلوك قيمي مبني على رؤية منظمة وجذور عميقة،لا انه فعالية استعراضية، او معرض رسم – مثلا – لا ندري ما محتواه؟ هل هو ثقافي (قيمي)؟ او انه يكرس حالة التربية غير السليمة، او اقامة مهرجان غنائي تتجلى فيه كل مظاهر التعري والتحلل، وكم هو فارق بين هذا وبين الثقافة! ان وزارة الثقافة معنية وبشكل كامل ان تتحمل مسؤوليتها التربوية، عبر برامج وانشطة تربوية فاعلة بدل ماتقوم به من انشطة لاتمت الى الثقافة بصلة.
5- وزارة التربية والتعليم (المدرسة)
رغم ان الوزارة المعنية بالتعليم تسمى وزارة التربية والتعليم، ومسمى التربية يتقدم على التعليم، الا ان الملاحظ ان كل برامجها وتخطيطها انما يتعلق بالتعليم وتطويره، واما التربية فانها تقتصر على بعض المواد التي لم ينلها شيء من التطوير، وهذا خلاف المنطق السليم، فالتربية هي قاعدة التعليم ومنطلق التقدم والتطور وهي قيم التحضر، وبدونها تفقد الحضارة قيمها ويفقد التعليم اساسه الذي يقوم عليه.
كما ان التعليم احد روافد التربية،فتعلم الانسان يزيد من مستواه التربوي؛ فكما ان التربية السليمة تدفع الانسان الى كل ماهو صحيح وسليم، واول هذه الامور هو التعليم، كذلك فان تعلم الانسان يفترض به ان لا يقتصر على المعلومات الصرفة، بل يجب ان يتضمن التعليم مناهجا حقيقة للتربية وغرسا للثقافة السليمة، ولو تحقق ذلك فان التعليم سيكون احد روافد التربية، وهكذا فاننا نحتاج الى حل مشاكل التعليم، كما اننا بامس الحاجة الى قيام الكوادر الادارية والتعليمية بمسؤوليتها التربوية ليكون هذا الرافد فاعلا في غرس القيم التربوية السليمة.
6- مراكز الدراسات المتخصصة
تعدد نواحي الحياة وتطورها وتوسعها والتخصصات العلمية، ومنها علم التربية، فقد عنيت الدول المتحضرة بالتربية عناية مابعدها عناية كونها قاعدة التقدم والتحضر، ففرعت التربية الى فروع متعددة وجعلتها تخصصات متنوعة تبعا لذلك، ومن اهم ما قامت به، إنشاء مراكز الدراسات في التربية وغيرها من العلوم الاخرى، وصرفت عليها الاموال الطائلة لاهميتها البالغة، وعلى الجانب الآخر لاتزال بلداننا الاسلامية بعيدة كل البعد عن مراكز الدراسات التخصصية، وهي وان وجدت في بعض المجالات فهي لاتزال في بداياتها، ولا يخفى على احد ان مراكز الدراسات التربوية بعيدة كل البعد عن القيام بدورها؛ وذلك لانها تحتاج الى دراسات ميدانية مكثفة ومستمرة لعقود عديدة لاستحصال نتائج يمكن الاعتماد عليها، وفي غياب مراكز الدراسات هذه؛ فاننا لما نزل نعتمد القرارات العشوائية والفردية البعيدة كل البعد عن العلمية والاحترافية، بل والمتخلفة عن ركب الحياة المتحضرة؛ لذلك ينبغي بنا ان ننظر الى اهمية مراكز الدراسات بجدية وجعلها احد اركان العملية التربوية والتعليمية.
7- الاسرة حصننا الاخير
تبقى الاسرة والوالدين تحديدا الحصن التربوي الاخير والحيوي القادر على التجدد والمقاومة فيما لو تخلى الجميع عن مسؤوليته التربوية، غير ان الوالدين لم يتلقيا ولم يتعلما الطرق المثلى بالتربية من جهة، واصبحا يواجهان تحديات جديدة افرزتها التطورات الحديثة لم يسبق لهما ان عاشاها كابناء او تعاملا معها كآباء من جهة اخرى؛ مما اصبح دورهما التربوي محدودا وغير فعّالٍ؛ وهنا ينبغي بالقائمين على العملية التربوية وضع خطة شاملة للاستفادة من كل الادوات المتاحة لفتح دورات وورش مستمرة تساعد الوالدين، وتعرفهم طريقة التربية والتعامل مع الجيل الجديد.
-
التغذية الخارجية ودورها في التربية
تواجه بلداننا التغذية التربوية الخارجية ببعديها الايجابي والسلبي، وهكذا فان التغذية الخارجية تمثل فرصة وتهديداً حقيقين في آن واحد، ففيها الكثير من المناهج التربوية التي يمكن الاستفادة منها على نحو السرعة كونها مادة جاهزة للغرس التربوي، وهي فرصة كبيرة ينبغي بنا الاستفادة منها، وعلى الجانب الآخر فان الغالبية العظمى من هذه التغذية هي مادة هدامة للتربية والتعليم، وعلى الجميع مواجهتها والتقليل من اخطارها؛ بداية من المؤسسة الحكومية، وصولا الى الاسرة متمثلة بالوالدين. فالبرنامج التربوي، كل ذلك يجب ان يقوم في اتجاهين؛ الاول: اتجاه البناء الثقافي وفق القيم التربوية السليمة، واما الثاني فهو الهدم لكل المظاهر والسلوكيات السيئة واللا اخلاقية.
لقد شاعت في مجتمعاتنا الاسلامية الكثير من المظاهر السلبية والخطيرة بسبب التغذية الخارجية والتي تستدعي من القائمين على العملية التربوية وضع البرامج الخاصة والمكثفة للقضاء عليها، والا فان عملية الغرس التربوي لن تجني ثمارها المرجوة.
-
بذور الخير الباقية والمسارعة اليها
إن مجتمعنا لا يزال يمتلك بذور التربية الصالحة، كما ان قطاعات واسعة فيه لما تزل على مستوى تربوي عال، غير انه، وأمام هذه التحولات المتسارعة؛ فان هذا الحال لن يبقى على ماهو عليه اليوم، وكلما تأخرت الحركة التصحيحية والانقاذية للتربية، فان فرص السيطرة على الوضع التربوي تضعف، وربما تصبح صعبة جدا اذا تجاوزت فترة معينة لم تعد بعيدة؛ لذلك ينبغي بالمعنيين بالتربية التحرك السريع للاستفادة من تلك البذور الخيرة مادامت بحيويتها وقابليتها للنمو والانبات.
-
المنظومة المتكاملة
وهكــــــذا يتبين ان التربية هـــي منظومة متكاملة تبدأ من البيت مرورا بالروضــــــة والمدرسة والمحيط والمؤسســـة الحكومية والانفتاح على الخارج، وكلما تم اخذ هذه المنظومة بالحسبان امكن تحقيق نتائج افضل بينما الاهمال لاحدها او بعضها سيؤخر بلا شك عملية البناء التربوي، وربما يجعل منها عملية عســـــــيرة جدا، فلا يمكن لنا مثلا الاعتماد على الاسرة لوحدها، او تحميل المدرسة المسؤولية عن ذلك، مع اغماض العين عن مسؤولية المؤسسة الدينية والحكومية والاعلام والسينما والمسرح والمحيط والظروف الاقتصادية وغيرها.
فالمطلوب من المؤسسة الدينية والحكومية والاعلام والسينما والمسرح ومنظمات المجتمع المدني ومراكز الدراسات تشكيل لجنة عليا، ووضع برامج ومناهج مدروسة وواضحة ومحددة تعمل على تطبيقها كل هذه الاطراف، وبما تمتلكه من ادوات؛ من مساجد، وخطباء، وهيئات حسينية، ومعاهد معلمين، وجامعات، ومراكز دراسات، وخبراء، وعلماء نفس، واجتماع، واعلاميين، وفنانين، وكتاب، وحقوقيين، وتجعل من تأهيل الوالدين والاسرة لمسؤولية التربية، الركن الاساس في هذه البرامج.
فكلنا معنيٌّ بمسؤولية التربية، وعلى كل انسان ان يقوم بدوره التربوي اذا ما اردنا ان نحقق عزة الاسلام والانسان، وتحقيق سعادة الدارين لنا ولاجيالنا القادمة.