أدب

الخلافة الأموية وخيط الإنتعاش الحسيني في الأمة* (7)

لقد أصبحت المعاناة عند الإمام الحسين، عليه السلام ـ في هذا العهد الثالث من تألب الأحداث ـ كأنها حوملة منها، ولا تقتات إلا من ذاتها. إنها ـ مع بداية إطلالته على رجولة مكتهلة بُنُضجها وعمق اختلائها بجوهر الذات ـ تفاعل جديدا أبداً بلونه وحقيقتة كشفه عن الأحداث، وربطها بالتيار الفاعل الذي تصدر عنه، وتتخبأ به النوايا والمقاصد، لقد اتضح له الآن ـ والأحداث أمام عينيه تتكرر حاملة ذات المقصد ـ وإن بنمط منوع بوتيرة أخرى ـ تنويع الأنماط للوصول إلى المقصد هو ذكاء الدهاء في استنباط الوسائل بتمويهها بالإخفاء والحذر، حتى لا يكون للآخرين تحضير معاكس يخرب الطريق ويمنع عنه الوصول.

لقد شرح له أبوه، الإمام علي، عليه السلام، كيف كان دهاء ابن الخطاب في استعمال سقيفة بني ساعدة سقفاً لنمط بلغ به فن الدهاء سحب كرسي من تحت صاحبها، وتركيز دعيّ آخر عليها بأنها حقه في الجلوس، ذلك النمط الأول في الوصول الى الهدف ـ أما النمط الثاني فإنه امتطى وقفز بها سريعا الى الهدف تدليلا بأن الكرسي هي ـ حتما ـ للجالس فيها، وهو صاحب الرأي في منحها لمن يريد، وهكذا تصرّف أبو بكر وخلعها على ابن الخطاب، أو بالاحرى، ردها إليه بنمط كأنه زيارة ورّدّت بزياة أو كأنها سلفة مقترضة رُدّت الى من أقرضها بالشكر والامتنان ـ أما النمط الثالث لبلوغ القصد، فكان ممرغاً بفن ممتع بكثير من مظاهر الإبداع الذي أغرى القبائل بروح القبلية، فكان المجلس الاستشاري السداسي، قدّمه ابن الخطاب قبل أن يلفظ أنفاسه، وجيّره إلى عهدة عبد الرحمن بن عوف، بعد أن كتب الأسماء الستة بحروف صغيرة، فأكبر، فأكبر، على أن يكون انتقاء واحد من الستة مشارا إليه بالحرف الأبرز والأجسم، وهذا هو النمط الجديد الثالث الذي نفذ القصد وأوصل الخلافة الى ابن عفان على حساب، الإمام علي بن أبي طالب.

 

لو أن البراءة أو الغيرة على كرسي الخلافة كانتا ضلعين في الميدان، لهان الأمر وطاب الرضوخ للمقصد الأشرف، ولكن الرؤية الآن عند الإمام الحسين، عليه السلام، هي التي تشاهد تعدد الأنماط وتوحدها في المخرج الواحد الى المقصد الواحد .. ليس في العملية الملعوب بها أيّة براءة على الإطلاق، إنما ـهنالك ـ بالعكس ـ نية مبيّتة تنام على ما سينام عليه بيت موزون من الشعر قبل مطابقا بعد عدة قرون، لمعنى يحدث الآن:

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها

عند التقلب في أنيابها العطب

لقد تجلى للإمام الحسين عليه السلام، أن كرسي الخلافة ليست وحدها في المقصد الخطير ـ إنما أهل البيت عليهم السلام بالذات، وهم الطالبيون الأمجدون بالتخصيص، هم المقصودون في عملية سيبقى لها التمادي الأحقر والأبلغ إجراما! فليكن منهم الرسول أو النبي، صلى الله عليه وآله، لا فرق ـ إن الإبادة هي المقصد، وهي في العطش المزمن، والأوفى والأروى! لقد أصبح الدليل الشاهد على النية السوداء بارزا في الساحة التي راح يرقص فيها الآن عثمان بن عفان ـ إن العصى التي سينهالون الآن بها على رؤوس الطالبيين المجرمين منها، تجمعت في كلها في أيدي بني حرب ـ إنهم الامويون الأعداء التقليديون الذين زرعهم أبو بكر وعمر ـ بعهدة أقدرهم وأبرزهم ـ معاوية في أرض الشام ـ وها هو الآن ابن عفان يجاهر عن انفسهم ـ إذا قدروا ـ لقد سبق، في ظنه، السيف العذل!

تلك هي المعاناة المستقية من معاناته التي كان يحيا بها في سنوات طفولته الواسعة التي تعزز وتدلل بها في هؤلاء الأحضان الذي هم: كل جده العظيم، وكل نفسه المفتخرة، وكل أمله الكبير في الحياة، وكل أركان الأمة التي بنيت جديدا للتفاخر والتباهي .. فكيف له أن يشاهد خطاً أصيلا باهرا من خطوط كيانه، مهددا بمثل هذا الإنهيار، تعمل على طمرهم فيه تلك القبيلة التي وصفها له أبوه بالأمس، بأنها أخطر ما تتلامس بها أصابع الأبالسة وألسنة الشياطين!

ما كانت قد اكتملت بعد رجولة الإمام الحسين، عليه السلام، عندما كان يعاني ثقلا ما عانى بعد من نوعه حتى هذه اللحظة من عمره، عندما اشتعلت ثورة صغيرة حطّمت الكرسي على رأس عثمان، ونبّهت في بال الأمة عرقاً صغيرا من الوعي والرفض وارحت تبحث عمن ينقذها من التشرد الجديد ـ وما كادت تتلقط بذيل الإمام، علي عليه السلام، حتى أمسكت به وجرته جراً  إلى الكرسي التي إهترأت قوائمها بسوس أصبحت بؤرته واسعة في أرض الشام.

ولكن معاناة الإمام الحسين، عليه السلام هي التي تتلقط أيضا بخيط جديد سيمدها بالانتعاش ـ ولو إلى عدة لحظات ـ إن الله مع الصابرين المؤمنين..

—————————-

  • مقتبس من كتاب ـ الإمام الحسين في حلة البرفير ـ للكاتب سليمان كتاني.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا