ســــماحـــة الشــــــيخ هاني الحـــكـــيم أحــــــد أســـاتـــذة الحــــــوزة العلـــمية فــــــي كــــــربلاء المقــــــدسة، قـــــدم من القطيـــف لطلـــب العلــــــوم الدينية إلى جوار الإمام الحسين، عليه السلام.
التقته “الهـــدى” لتجــــــري معه حواراً ركزت فيه عــــــلى القرآن الكريـــم والعــــــودة إليـــه، فكان الحـــوار التالي:
* تعيش الامة أزمة هوية وانتماء بسبب تزاحم الافكار والنظريات في الساحة، وبالرغم من حاجتها الى القرآن الكريم للخروج من هذه الازمة، ما نزال نرى ابتعادها عن هذا الكتاب السماوي المجيد، ما السبب في ذلك باعتقادكم؟
- أشكر مجلة «الهدى» على أتاحتها هذه الفرصة في شهر رمضان المبارك للحوار حول القرآن الكريم.
عندما نقول: الأمة؛ فهي تعني إطاراً ومحتوى، ولنا ان نسأل: اذا كان المحتوى منقوصاً، فما هو ذلك الاطار الذي يجمع هذه الامة ويصحّح لنا اطلاق لفظ الأمة عليها؟
في تصوري أن المقوّم الأول لهذا الاطار، والمشكّل الأول لهوية الامة، هو القرآن الكريم، إلا أن الامة وتبعاً لجملة من الاسباب جعلت القرآن في موضع الشكل دون المحتوى.
ولذلك اسبابٌ داخلية وخارجية، ولا أميل كثيراً الى إلقاء اللوم على العامل الخارجي، او تعليق مشاكلنا على الخارج – دون ان أنكر أن ثمة عوامل خارجية تسببت في ذلك – نعم؛ لها دور وتأثير، لكنها مثل الميكروبات إذ لا تتمكن ان تغزو الجسم مادام صحيحاً وسليماً، وإذا تمكنت من اختراق الجسم فإن ذلك يعود إلى ضعف الجسم لا إلى قوة الميكروب.
ما أود ان أُلفت النظر اليه؛ هي تلكم الاسباب والعوامل الداخلية التي من خلالها يمكننا تشخيص سبب هذا العزوف عن القرآن الكريم، وحرصنا على النظر للأسباب الداخلية ناشئ من سببين:
الأول: لأننا إن لم نكن المتسببين المباشرين لها، فإننا لا أقل مسؤولون عن استمرارها – ولو جزئياً – إن لم أقل استفحالها، وبذلك تقع ضمن نطاق مسؤوليتنا، بالدرجة الأولى.
الثاني: إن الأسباب الخارجية لربما لا تكون حلولها متاحة لنا قبل تشخيص مكامن ضعفنا التي أدت لتلكم الأسباب الخارجية، أو لأنها قد تشكّل مرحلة ثانية في العلاج.
باعتقادي أن أبرز سبب لعزوف الامة عن القرآن، يكمن في تراجع المعاهد الدينية في جعل القرآن محوراً في حركتها العلمية وحركتها التوجيهية، ولنا أن نسأل أليست المعاهد الدينية (الحوزات العلمية)، هي المعنية والمسؤولة بالدرجة الاولى عن تعميق وتجذير العلاقة ما بين الامة وبين القرآن الكريم؟
أليس القرآن الكريم مصدرَ شرعية هذه المعاهد والحوزات، ومظلة حركتها؟
في البدء لابد من التوطئة لذلك ببيان مبدأ خط الانحدار بالآتي:
– إن ثمة انحرافاً قد وقع عقيب وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله بمخالفة وصيته بالاستمساك بالثقلين (القرآن والعترة) اللذين أمرنا رسول الله بالتمسك بهما للعصمة من الضلال في حديث الثقلين حيث قال: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».
وبمخالفة تلك الوصية بدأ مسلسل الانحراف عن القرآن بإقصاء عدله وهم العترة الطاهرة.
– وفي إثر ذلك انبرى أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم لتقويم مسار الأمة واتجهت جهود علمائنا لهذه المهمة مما ركز جهودهم على إثبات المذهب وحقانيته، وفي مرحلة تالية أو موازية استجابت لهذا التحدي على صعيد الفقه مما ساهم في إغفال جوانب حيوية ومحورية، مما جعل المحورية لإثبات المذهب عقدياً وفقهياً وما يستتبع ذلك من علوم كعلوم الفقه.
– ووجدت الأنظمة المتسلطة باسم الدين في هذا الجو بغيتها؛ فكتاب الله بات منسياً فاقداً لفاعليته بإقصاء عدله، وعلماء المذهب شغلوا بالتأسيس له استجابة للمرحلة والتي ألقت بظلالها الثقيلة على الانتهال من معين القرآن اللامتناهي.
بعد هذه التوطئة، وهي بمنزلة بيان مختصر للمسار التاريخي لخط التباعد عن كتاب الله، لنا أن نقول إن القرآن الكريم هو المزوّد الثقافي للمجتمع الاسلامي منذ عهد النبي الاعظم، صلى الله عليه وآله، بعد أن كانت أمة العرب موغلة في الجهل، حيث بيّنت الصديقة الزهراء، عليها السلام، في خطبتها، حال أولئك القوم، وفي أي مستنقع كانوا يعيشون قبل بعثة النبي الأكرم، وبزوغ فجر الاسلام، «وكنتم تشربون الطرق وتقتاتون القد والورق أذلة خاسئين وكنتم على شفى حفرة من النار فأنقذكم الله بأبي محمد»، وهذا الانقاذ قد تم بواسطة القرآن الكريم.
وهذا التحول الحضاري الكبير شكّل خطراً داهماً على الكيانات المناوئة، وايضاً الكيانات المستعبِدة والطاغية في داخل الامة.
لذلك حرصت جملة من الدوائر والانظمة السياسية العميلة في البلاد الاسلامية على أن تكون علاقة الأمة ومراكز تعبئتها مع القرآن علاقة شكلية، اكثر مما يفترض ان تكون علاقة تفاعلية مع متطلبات الحياة.
* ما هي السبل والآليات المناسبة للعودة الى القرآن الكريم؟
- قال الامام علي، عليه السلام: «ما اخذ الله على الجهال أن يتعلّموا حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا»، بمعنى أن الله – تعالى – أخذ عهداً على العالِم ان يُعلّم الناس، ثم وجّه الجاهل الى ان يتعلم من العالم، وهذا امر طبيعي، فلا يصح توجيه الجاهل للتعلم إلا بوجود عالم، وهذا السؤال متصل بالذي قبله، ولنا ان نسأل استرسالاً:
على من تقع مسؤولية تجسير العلاقة بين الامة والقرآن؟
بالتأكيد اقول: إنها تقع على العلماء «بالدرجة الأولى»، فهل قصّر العلماء في ذلك؟
للإجابة نقول:
بالنسبة لمدرسة أهل البيت، عليهم السلام، إذا ما سبرنا تاريخ علمائنا الأبرار نجد أن القرآن الكريم كان متمثلاً في مسيرتهم العلمية وفي سيرتهم العملية، – وكاستجابة لتحدي المرحلة المذكورة آنفاً في معرض الإجابة على السؤال السابق – كانت لهم أدوار بارزة في المجتمع الشيعي، نجد ذلك جلياً في تراثهم العلمي، وكمثال على ذلك ليكون منطلقاً صحيحاً لتقييم الواقع فيما يرتبط بالمذهب الشيعي تحديداً، أشير إلى التالي:
لاحظوا العلاقة ما بين القرآن الكريم وما بين الفقيه في الشق الذي يرتبط باستنباط الحكم الشرعي، تجدون دقة عالية واحترافية في رسم الآلية المناسبة للاستفادة من القرآن، وبذات الدقة والكفاءة، نجد نظيرها في البعد العقائدي ايضاً، ولكن؛ الحلقة المفقودة تكمن في أن هذا الاهتمام التخصصي في شق الفقه او العقائد، امسى سبباً لانحسار هذا العمق الاحترافي عن سائر أبعاد القرآن التي تشمل كل ما يُحيي به الانسان اذا ما أخذ به، يقول القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، (سورة الأنفال: 24)، واذا تساءلنا عن المقصود بـ (لما يحييكم)، نجد أن القرآن الكريم لم يذكر متعلقاً ههنا لقوله (لما يحييكم) مما يفيد العموم، حيث لم تذكر الآية أن ما يدعوكم له الله ورسوله ليحييكم في شؤون خاصة كالحرب مثلا أو العبادة بل أغفل المتعلق ليفيد العموم كما أشرنا، فالقرآن اذن كتاب حياة، فما الذي يحتاجه الانسان لكي يحيا؟ إنه لا يحتاج إلى ضرورات مفروغ منها ويستشعر حاجته إليها غريزياً مثل؛ الطعام والشراب والجنس ….، فالقرآن لا يوفر الطعام والشراب وسائر الاحتياجات المادية، وإنما يوفر للإنسان المؤمن به ما يلي:
اولاً: العزة والكرامة، بتعريفه ربه الواحد الأحد الذي لا معبود سواه ولا إله غيره ولا سلطان إلا سلطانه.
ثانياً: مناهج للمعرفة يدرك بها سنن الله في الخليقة، ويتعرّف على مسؤوليته في ضوئها.
ثالثاً: رؤية سليمة للاستفادة من تلكم الآلاء والنعم ومن ثم تسخير الطاقات الموجودة في الارض لنفع الانسان.
رابعا: يزكيه بالحكمة والموعظة الحسنة ليهذب سلوكه.
بمعنى؛ أن القرآن يقدّم لنا منظومة معارفية متسقة ومنسجمة ما بين العقائد والفقه والأخلاق.
وعندما نقول إن القرآن يستطيع ان يحقّق حياة سعيدة وهانئة، فإننا نشير إلى مصداق لذلك من واقع العلاقة الزوجية، فالقرآن الكريم يبيّن معادلة (المودة والرحمة) في هذه العلاقة في الآية الكريمة: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}، (سورة الروم: 21)، حيث ان هذه العلاقة تتضمن حقوقاً وواجبات – بطبيعة الحال -، من كل طرف تجاه الآخر، والقرآن بهذه الكلمة المفتاحية التي تمثل اطاراً عاماً، يستوعب جملة من الفروع الفقهية المتناغمة والمتصلة لإنجاح هذه العلاقة أيما نجاح.
وبذلك نستطيع القول إن أصل نجاح العلاقة الزوجية هو المودة والرحمة، فلابد ان يكون هذا هو اطار العلاقة، ولا يصلح ان يعتمد الزوجان (مبدأ الحقوق والواجبات) قاعدةً وإطاراً لحياتهما المشتركة، اذن؛ لانقلبت حياتهما الى جحيم، فلماذا إذن، يحدثنا القرآن الكريم في آيات أُخر عن الحقوق والواجبات؟
إنما يحدثنا عن ذلك لكي تكون تلكم الحقوق والواجبات مرجعيةً للزوجين عند الخلاف، لا لكي تكون قاعدة لبناء الحياة الزوجية، فهنالك فرق شاسع بين ما نرجع اليه في خلافاتنا فحسب، وبين ما نعتمد عليه في تشييد البنية التحتية للنظام برمته اجتماعياً كان أم سياسياً وغيرهما، وكما يرتبط هذا الامر بفقه الحياة الاجتماعية، فإنه ينسحب ايضاً على فقه الأخلاق، وكذلك ما يرتبط بالشؤون السياسية والولاية وغير ذلك مما يرتبط بحياة الانسان.
إن تركيز النظر على فقه المكلفين بوصفه مورد تكليف الأفراد (العبادات – المعاملات) يحدو بنا لنصبح علمانيين عملياً وان كنا اسلاميين نظرياً، فأين هي تلك المساحات الرحيبة التي يفتحها أمامنا الفقه القرآني من خلال الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟ وهذه هي المفارقة.
وهذه المعضلة لا يعاني منها الفقه الشيعي فحسب، وانما هي شائعة في الامة الاسلامية جمعاء.
لذا فإن المأمول من علمائنا الكرام – وهم أهل لذلك – أن يحققوا بما يمتلكون من أدوات احترافية نقلة نوعية عبر جعل القرآن الكريم برحابته محوراً لحركتهم العلمية كما حققوا بها قفزات نوعية في استنباط الاحكام الشرعية في مجال العبادات والمعاملات، وأن يوظفوا نفس هذه المهارة في هذا الاتجاه، فيما يرتبط بالبعد الاجتماعي والبعد السياسي، وسائر أبعاد الحياة الإنسانية، وبكلمة؛ أن يستنبطوا للأمة (فقه الحياة).
ومما تجدر الاشارة له والاشادة به؛ بادرة المرجع المدرسي حيث أسهم ضمن اسهاماته القرآنية في حقول عدة بخطوة ابداعية في الفقه بتأليف كتاب (فقه الحياة الطيبة)، الذي يتضمن الكثير من هذه النماذج التطبيقية، وكذلك موسوعة التشريع الإسلامي التي قدّم فيها رؤية قرآنية تأصيلية ذات منهجية متميزة لعلنا نوفق للعرض لها في فرصة أخرى.
* بعد ان عرفنا المسؤول عن تضييق المسافة بين القرآن الكريم وبين المجتمع، ما هي الخطوات العملية والمناسبة لجعل المجتمع قرآنياً؟
- لا أميل الى تحميل طرف واحد بعينه مسؤولية التباعد بين الامة وبين القرآن الكريم، لأننا هنا لا نتحدث عن طرف عالم، وطرف آخر جاهل «محض»، إنما نتحدث عن النخبة التي يفترض ان تكون موجهة للأمة، وهم العلماء والخطباء والكتاب والشريحة المثقفة، ولكن؛ في نفس الوقت نحن نتحدث عن الامة، وعندما نقول (أمة)، فنحن نقصد ذلك الكيان الذي يتأطر بأسمى إطار وهو القرآن الكريم، مع ذلك، لا يمكن اننبرّئ هذه الامة من مسؤوليتها إزاء كتابها المجيد، فنحن نتحدث عن امة تراكمت ثقافتها عبر ما يربو على اربعة عشر قرنا فهي ليست صفر اليدين فقد كان للقرآن نصيب في تشكيل ثقافة الأمة وإن زاحمته روافد أُخر.
ولأجل ذلك أقول إن واجب الأمة بما تستشعره من كينونتها وهويتها الاسلامية أن تستشعر من العلماء والفقهاء والخطباء ذلك النبراس والسراج الذي من خلاله تستطيع أن تجسّر العلاقة فيما بينها وما بين كتابها المجيد. فلا يعني قولنا أن الواجب الأول في ذلك يقع على العلماء، أن أفراد الأمة معذورون تماماً.
إن مسألة التوفيق والنجاح يبينها ربنا – تعالى – في كتابه المجيد عندما يربط الهداية بنفسه وأنه الموفق اليها، وفي نفس الوقت يؤكد أن تحقيق الهداية مسؤولية الانسان نفسه، فالهداية ليست هبة إلهية، إنما هي ميراث سعي الإنسان، تقول الآية: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا…}، (سورة الإسراء: 19).
وللإجابة على السؤال، بداية لابد وأن نُثبّت محور المسؤولية، فالجميع مسؤول، وإذا استشعرت الأمة بكل شرائحها تلكم المسؤولية، فإنه لاشك أن طليعة من الأمة ستبادر إلى تبني هذا المشروع وقد لاحت بوادر ذلك من خلال التفاعل الحالي الملموس مع كتاب الله، ربما لو تحدثنا عن الفترة الزمنية الماضية، أي قبل حوالي ثلاثين او أربعين سنة، قد يكون الحديث عن محورية القرآن في تشكيل وعي الأمة ذا طابع ظلامي، ولكننا عندما ننظر لواقعنا اليوم نرى – للإنصاف – أن ثمة اهتماماً جيداً و جدّياً في أكثر من ساحة من مجتمعنا الإيماني يشكّل خطوات الى الأمام في طريق العلاقة مع القرآن الكريم؛ حفظاً وتلاوة وتدبراً، وثمة شواهد و أمثلة عديدة على ذلك، ولا أقول أننا بلغنا الغاية، لكنني أقول بضرس قاطع: إن هذا الاهتمام الذي تبلور من خلال منهج التدبر في القرآن الذي اطلقه المرجع المدرسي في بداية مشروعه الرسالي والحضاري، قد أثمر في أكثر من ساحة، وأنا بهذا القول اسجّل عرفاناً وامتناناً لسماحة المرجع المدرسي حفظه الله.
* كيف تقيمون عمل المؤسسات المعنية بنشر ثقافة القرآن الكريم في الوقت الحاضر؟
- اذا كان المقصود بالمؤسسات المعنية (الحوزات العلمية)، فإنها وللأسف تعيش تقدماً بطيئاً ونسبياً، فما نلاحظه من الحوزات العلمية في عموم البلاد الاسلامية، أن نصيب القرآن الكريم من المنهج الدراسي هو الأدنى من بين الدروس، وعلى المستوى النوعي نستطيع ان نصنف هذا الاهتمام بأنه اهتمام لا يتعدى الشكل، بما يرتبط بالتجويد أي تحسين القراءة، وإذا تقدمت خطوة إلى الأمام نرى اهتماما نسبياً فيما يتعلق بعلوم القرآن الذي هو أشبه بتاريخ القرآن؛ والرسم القرآني، والقراءات القرآنية وكيفية جمع القرآن ومعلومات عن القرآن الكريم، وما إلى ذلك مما له مساس بنص القرآن ذاته، وإذا ما تقدمت خطوة ثالثة، لربما تهتم بعض الحوزات – وأشدد على البعض – بشيء من قواعد التفسير، او دورة في قواعد التفسير وينتهي كل شيء، لكن ان نفسّر واقعنا بالقرآن ونعرض عليه مشاكلنا المتنوعة في حقل التربية والمعرفة والاخلاق وغيرها من حقول حيوية، فللأسف لا نرى اهتماما يعبّر عن محورية القرآن الكريم، بينما يقول الامام علي عليه السلام، في نهج البلاغة: «…فاستشفوه من أدوائكم»، أي أن نجعل القرآن الطبيب لمشاكلنا، وهذه هي الدعوة التي يدعو اليها سماحة المرجع المدرسي حفظه الله، فالهدف ليس التفسير، إنما تفسير الواقع بالقرآن الكريم.
نعم؛ ما اثمنه واقوله بكلمة منصفة، هو الأطر الثقافية الناشطة لبعض المجتمعات الشيعية التي بدأت تتحسس هذا النقص وتنشئ مراكز قرآنية تستقطب من خلالها العلماء والخطباء ووجوهاً مهتمة بالقرآن آخذة على عاتقها مسؤولية ترويج ثقافة التدبر في القرآن الكريم كمنهج يتناوله عامة أبناء الأمة لتحقيق اتصال منهجي مع القرآن الكريم وبأدوات علمية محققة؛ سواءً على مستوى الشباب او على مستوى الفتيات، وايضاً الأطفال والاشبال، وهنالك تفاعل ملموس يبشر بالخير في هذا المضمار.
ولكن؛ اقول: للأسف لم تتحمل الحوزة العلمية مسؤوليتها كما ينبغي في تعميق وتجذير العلاقة بين الأمة والقرآن وهي المعنية بالدرجة الأولى بذلك.
* ما هي الاسباب التي تحول دون تحقيق هذا الهدف باعتقادكم؟
- بتصوري الاسباب مركبة من أجزاء، وليست بسيطة، فثمة سبب نفسي، وآخر فكري، وربما هنالك اسباب جهوية، كما أن هنالك أسباباً خارجية ايضاً.
من الناحية النفسية؛ لا أحد من المسلمين يعتقد أن فائدة القرآن مقصورة على الجانب الشكلي، وأنه كتاب للتبرك والاستشفاء والموعظة فحسب – دون أن ننقص من شأن ذلك بالتأكيد -، هذا من الناحية النظرية، إنما المشكلة تكمن في الناحية العملية، وهذا يُرجعنا الى أصل المشكلة في ضآلة دور الحوزات العلمية المعنية بمعالجة هذه المشكلة قبل غيرها.
ومن معالم المشكلة النفسية، تأثر الأمة بما أحرزه الغرب من تقدم في العلوم التجريبية، وفي ظل الضخ الإعلامي المعادي من قبل المستعمر الثقافي، وقعت هنالك هزيمة نفسية لدى البعض، وأمسى هنالك تصور بأن هذا القرآن ليس اكثر من كتاب للبركة والمواعظ العامة، وأن العلاقة معه علاقة هلامية، وليس معلوماً ما الذي يمكن أن ينجزه لنا في العصر الحاضر؟! فحصل الانفصال عن مزودها الثقافي، كما انفصلت عن إنجازات سلفها الذين اتصلوا بالقرآن وسادوا الأمم وانجزوا حضارة.
* اشرتم الى تجربة الحضارة الاسلامية، ما السبب في عدم تكرار تلك التجربة بالاستفادة من القرآن الكريم؟
- عادة يميل الانسان الى التغنّي بالماضي لأنه يورثه عزاً، ولو عزاً في اطار دون محتوى، أما أن يتحمل مسؤولية صناعة واقعه بناء على ذات المقومات والأسباب فإنه عادة ما يصّور الأمر مستحيلاً، ولذا – كما اشرت سلفاً – لا أميل الى إلقاء اللوم كله على العامل الخارجي أو إرجاع المشكلة لعامل وحيد، وانما هنالك عوامل داخلية؛ منها:
١ – إغفال موقعية أهل البيت، عليهم السلام، كمرجعية تفسيرية للقرآن وكونهم المعلمين لنهج النهل منه والتدبر فيه، خصوصا ضمن اطار المجتمع الشيعي الذي يعتقد بإمامتهم، عليهم السلام، وهذا بحد ذاته محور يتطلب المزيد من تسليط الضوء للكشف عن اسباب سطحية ونسبية الاستفادة من أقوال المعصومين، عليهم السلام، فيما يرتبط بفقه القرآن.
٢ – كسل الأمة وتقاعسها عن تحمل مسؤولياتها في تفعيل ثقتها النظرية بالقرآن وهذا عامل أساس لا يجوز أن نغفله إذا ما أردنا وضع حلول جذرية وناجعة لهذه الجفوة لكتاب الله – سبحانه -.
وعوداً على بدء؛ أقول:
هنالك جملة من العوامل؛ النفسية منها والفكرية تمازجت وشكلت – للأسف – شبكة حاجبة ما بين الأمة والقرآن الكريم، وهي شبكة في واقعها مثل بيت العنكبوت، وهي ليست قوية وعصية اذا ما أردنا إزالتها، والخطوة الصحيحة باعتقادي في هذا الاتجاه، أن يتحمل العلماء مسؤوليتهم في تجسير العلاقة بين الامة والقرآن الكريم ولا يتم هذا بالشعارات، وإنما بطرح مفاتيح معرفية ضمن منهج أشار إليه القرآن الكريم نفسه وعلمّنا اياه أئمة الهدى، عليهم السلام، وهو منهج التدبر الذي بإمكانه فتح كل الاقفال التي أشار إليها القرآن:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، (سورة محمد: 24)، مهما كانت تلكم الاقفال؛ داخلية – نفسية – فكرية أو خارجية، فإذا انفتح الإنسان على كتاب الله، فإن قلبه وعقله سيزهران بضيائه بمساحات متمادية والآفاق معرفية رحيبة، وهذا هو سر تقدم الامة، كما هو سر تخلفها إن غفلت عن هذا المفتاح.
كما على أفراد الأمة أيضا واجب البحث في أسباب عدم انتفاعها بكتاب ربها كما ينبغي وأن يأخذوا بوصية نبيهم بالتمسك بالكتاب والعترة فإن كتاب الله يشكل النظرية والعترة تشكل التطبيق – إن جاز التعبير -.
* ماذا تتوقعون من الامة أن تفعله لتسهم في عملية العودة الى القرآن الكريم؟
- نحن في زمن بإمكان الإنسان أن يتحدث بما يشاء ووقت ما يشاء، وأمام من يشاء، فوسائل التواصل والاعلام باتت متاحة لافراد المجتمع ومن ثمّ فنحن مسؤولون عن تعريف الناس بعظمة هذا القرآن، يقول الإمام الصادق، عليه السلام: «لو علم الناس محاسن كلامنا لاتبعونا».
لذا اقول:
ثمة تراجع دعوي – ترويجي، سببه نقص الثقة بكتاب الله، فنحن عندما تقلّ ثقتنا بالقرآن الكريم لسبب او لآخر، فإننا لا نستطيع أن نقنع الآخر ما دمنا نعيش الارتياب، ومن أسباب تراجع الثقة، الهزيمة النفسية التي منيت بها الأمة إزاء التقدم الصناعي والتكنلوجي والعلمي لبعض الأمم، إذ إن من طبيعة الإنسان عندما يرى اشخاصاً متقدمين، سيتساءل: لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟ والحال ان ليس لديهم كتاب سماوي مثل القرآن، ولا يعتقدون انهم «خير أمة اخرجت للناس»، مما يحدوه تدريجياً للإرتياب، ومن ثمّ فقد الثقة، ولنا أن نسأل: ما هو مقياس التقدم؟ هل هو إحراز إنجازات تتعلق بحقل الصناعة والزراعة والتكنولوجيا وما إلى ذلك؟ لاشك أنها جزء من التقدم، ولكن تصويره على أنه كل التقدم نابع من الهزيمة النفسية، ومن ركون الانسان للدعة واعتماده ثقافة التبرير.
إذن؛ الإنسان مركب من روح وبدن وكلاهما بحاجة للإصلاح والتنمية، وحتى يحيا حياة عزيزة، وكريمة، وسليمة، في علاقاته بربه وبنفسه وبوالديه وبأفراد اسرته، ومع اصدقائه، ومع كل الناس من حوله، بل وحتى مع الحيوانات والطبيعة، وحتى يكون حيّاً بالمعنى الواقعي عليه أن يرجع إلى مزّود يتمتع بهذه الشمولية، وأن يكون هذا المزود تفصيلياً ولا يخطئ، بحيث يزوده بإحداثيات دقيقة جداً، وهو ليس إلا القرآن والعترة، فعندها تعود للأمة ثقتها بالقرآن الكريم، إذ ذاك تكون قد خطت خطوتها الاولى في تصحيح علاقتها مع كتاب ربها، الرسالة الخاتمة.