ثقافة رسالية

الحوزة العلمية وامكانية تطويرها منهجياً

لا شك ولاريب في أن الحوزات العلمية بكل ما تحمله من قدم وخلفية علمية وثقافية وما تمتلكه من مكانة بارزة في المجتمعات الاسلامية حققت نتائج وإنجازات علمية …

-1-

لا شك ولاريب في أن الحوزات العلمية بكل ما تحمله من قدم وخلفية علمية وثقافية وما تمتلكه من مكانة بارزة في المجتمعات الاسلامية حققت نتائج وإنجازات علمية عميقة ومثمرة، مع حفاظها على تركيبتها التقليدية المعتادة وبرامجها التبليغية، بحيث استطاعت ان تؤدي هذه الرسالة بكفاءة.

الحوزات العلمية، وهي مدارس العلوم الدينية لدى الشيعة، تميزت عن سائر المدارس الدينية في العالم الاسلامي بأمور اساسية جعلتها تستمر بالعطاء ومواكبة تطورات الزمن، منها:

1- فتح باب الاجتهاد وتوفير أجوبة لمختلف الاسئلة والمشكلات التي تواجه الأمة على مر الزمن…

2- التلاحم بين علماء الدين وجماهير الامة…

3- الاستقلالية المالية والسياسية…

مع ذلك هناك من الأسباب التي أدت إلى ضعف الحوزة العلمية – بالرغم من هذا العطاء المتواصل – بسبب تسارع وسيلة التقدم في المجتمعات البشرية، وانشغال الحوزة العلمية في مواجهة الطغاة وإدارة شؤون الأمة هنا وهناك، الذي شغلها عن دورها في تطوير مناهجها؛ بما يتماشى مع الانطلاقة العلمية وتطوراتها، وضرورة أن يكون ذلك ضمن ضوابط الشريعة والتمسك بثوابت مناهج الحوزة العلمية.

-2-

لذا لنا أن نوجد تكاملاً بين الحوزات العلمية وبين العلوم الحديثة بالرغم من وجود الاختلاف، من حيث أن الحوزة العلمية؛ عاشت؟ في إطار الآخرة ونسيت الدنيا بما فيها من وسيلة للوصول للآخرة {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، (سورة البقرة: 201) وأما الجامعات فحددوا فكرهم وسلوكهم في هذه الحياة الدنيا، وأهملوا ما عليهم من نصيب الآخرة.

الحل الأمثل لذلك الاختلاف هو أن نحوله إلى تكامل عميق، بأن يكتمل منهج الجامعة بمرور الزمن لما فيه مرضاة الله – تعالى- والإيمان به، أي العيش للدنيا لها وللدين {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، (سورة القصص: 77)، وهكذا الحوزات تتكامل بالاستحواذ على علوم أهل الأرض وجعلها في خدمة العباد؛ وهذا بدوره يحتاج إلى تغيير جدي وجوهري في مناهج الدراسة، مثلاً:

إذا كانت المناهج الدراسية وسبلها التعليمية المعتادة للقراءة، وبعض الدروس العلمية والدروس الإنسانية التي تتكامل مع العلوم الدينية، ففي مقابل ذلك ينبغي لرياض الأطفال والمدارس الابتدائية الحديثة أن تبتنى إلى أسس دينية متينة ومن ثم تتكامل الدراسة فتكون: الدين قيم، حيث تبنى شخصية الطفل منذ البدء على قيم الدين الحنيف. والعلم وسيلة، وهي دراسة تتكامل مع الطالب كلما تقدمت به الدراسة من الثانوية إلى الجامعة وحتى الدراسات العليا.

فبهذا المنهاج الذي رسمه سماحة السيد محمد تقي المدرسي ممكن أن يسد الفجوة التي تفصل بين مساري الحوزة والجامعة؛ فتكون الحوزة في ذلك أقرب إلى العصر الحديث والجامعة أقرب إلى الدين بالدرجة الأولى وقريبة إلى واقع المجتمع الإسلامي، لذا يقول سماحته: « كم هي المنافع المتوخاة من هذه الوحدة العميقة التي طالما عانينا من انعدامها ومن الخلاف المؤلم بين أجنحة المجتمع الإسلامي».

-3-

على هذا الأساس علينا المسارعة في طي المراحل، من خلال الاهتمام بكل لحظة من لحظات الحياة لكي يكون العمل مثمراً، كما هو حال علمائنا الذين كانوا يتجنبون اللغو ويعرضون عنه؛ والدليل هو إنجازاتهم العلمية والجهادية عبر التاريخ، كما في جهادهم في نشر التشيع وفتوى التنباك وغيرها، الذي كان على أثرها تخلص المجتمع من المحتل؛ وخصوصاً اليوم وفي عصر الحاضر، كفتوى الجهاد الكفائي ضد المعتدين على بلدنا.

هذا كله يدل على كفاءة المناهج الحوزوية المستوحاة من الدين الحنيف في طي المراحل في سرعة قياسية، مع بقاء هذه الحوزات محتفظة باستقلالها وقوتها وامتدادها وسلامة برامجها؛ لا كما يقال من أن الحوزة مضيعة للوقت.

وخصوصا لو أضفنا إلى تلك المناهج الكفاءات العالية والأساليب العصرية التي تظهر نتيجة التجارب المتراكمة والخبرات والتقنيات الحديثة، والتي تتخذ كعوامل للإنجاح منهج المسارعة في طي المراحل، الذي بدوره يحتاج إلى تقنية عالية في تنمية القيادات التي تُستوحى من الدين، ومن تجارب الأسلاف السابقين من المؤمنين، ولاسيما التجارب الحديثة التي من الممكن الحصول عليها من مصادرها.

وكلما كان هذا المنهج مدروساً بشكل صحيح وعلمي وبأيدٍ كفوءة، كان أبلغ منالاً، من خلال رسم مقدمة ممنهجة قبل البحث في التفاصيل.

وقد جاء القرآن الكريم ببصائر؛ فرسم لنا منهجاً متكاملاً وخطه لنا وبشكل مستقيم نحو معرفة الحقائق؛ هكذا لابد للطالب أن يستوعب مناهج الدين المعرفية بشكل متفاعل، فكرياً، وسلوكياً، وخلقياً، قبل الدراسة ومعها وبعدها.

وهذا كله يقع على عاتق المربين في توجيه الطالب إلى معرفة الحقائق التي توصله للمطلوب، وجعله يكتشف وبسهولة مصادر الفكر التي تدخل في قلبه على أساس من الآيات والبينات.

-4-

وان المنهج العلمي يحتاج إلى الوصول للحقيقة والنظر إليها بشكل موضوعي، اعتماداً على الأسس الأصلية (الكتاب والسنة) اللذين هما أساس تزكية النفس للابتعاد عن المخلفات المتراكمة داخل الإنسان التي اقتبسها من المحيط الخارجي، لكي يكون هذا المنهج رصيناً خالياً من الأفكار المسبقة.

ولكي يكون الطالب موضوعياً وقادراً على تجاوز ذاته وأهوائه وميوله الشخصي، التي من الممكن أن تزيغ به عن الحقيقة؛ فعليه أن يعرج إلى مراتب الكمال حتى يبلغ المستوى الرفيع، من خلال اتباع البرامج العلمية لتزكية النفس باتباع المنهج الديني الحنيف من تلاوة القرآن الكريم والاتعاظ بكلامه وأخذ العبر منه، ومداومة قراءة الأدعية المأثورة لأهل البيت، عليهم السلام، إضافة إلى ترويض النفس على طاعة الله بالصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك الذي يكسب به رضوان الله – تعالى-، لأن هذا له علاقة برسم المنهج السليم.

وذلك يستوجب على الطالب الجهد المتواصل لكسب المزيد من العلم، ولهذا الكسب يحتاج إلى أن يسلك سبلاً تتمثل في تنمية العقل وتوسيع القدرات الفكرية، أفضل من تراكم المعلومات وتنضيدها والحفاظ عليها من دون الاستفادة منها.

من اليوم الأول لانتماء الطالب المجد لطريق علوم أهل البيت، عليهم السلام، علينا الاهتمام بعقله وتنمية قدراته الإبداعية وبكل الوسائل السليمة، صحيح قد لا يصل الطالب إلى درجة الاستنباط (الاجتهاد)، ولكنه يكون قد وصل إلى مستوى التفقه، الذي هو مستوى الفهم العميق للدين، ولا يكفي التلقي السطحي.

ومن أهم البرامج العلمية الحوزوية لطالب العلم هو تدريبه على كيفية كشف الحقائق بنفسه، ويكون ذلك عبر الوسائل الشائعة في الحوزات العلمية:

1- حرية الرأي في فهم الوحي ومعرفة ظروف تطبيقه.

2- المباحثة مع زملائه من الطلبة التي يجب عليهم أن يزاولوها من بعد تلقي دروسه من أساتذته، الذي يفيد بعض الطلبة لفهم المادة أكثر من حضوره في الدرس.

3- التدبر في كتاب الله – تعالى- الذي يفتح للطالب آفاق المعرفة من الآيات المباركة.

4- دراية الحديث من خلال تأكيد الدين على هذه الأحاديث والتأمل فيها وفي كلماتها ومعاريضها وآفاقها لا مجرد قراءتها، بل يجب أن تدرس من قبل أساتذة مختصين بالحديث والمباحثة فيها بين الطلبة.

5- القدرة على التحليل العلمي للواقع، كما في الرواية التي تقول: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل»، من خلال تدريب الطالب على تحليل الواقع السياسي والاجتماعي بموضوعية، فذلك يسهم في نجاحهم في مستقبلهم

6- التركيز على القواعد والمعايير الثابتة، من أن يكون فكر الطالب مهيأ لمعرفة الحقائق التي تبنى على أساس مقاربة الحوادث مع قواعدها العقلية أو الشرعية أو حتى العرفية والقانونية، وهذه هي مسؤولية الأساتذة.

-5-

وأخيراً نتناول الجانب التخصصي والمنهجي الدراسي لطالب العلم، الذي بدوره يتخصص عملياً في جوانب متعددة، وهذا هو الخطأ الشائع عند البعض في التخصصات المتعددة؛ قد لا تتوافق مع منهجهم الدراسي مع ما سوف يتخصصون فيه مما يسبب في مفارقات مضرة.

من أجل تخطي ذلك؛ فإن الأمة بحاجة إلى رجال يستشرفون الحياة من جميع أبعادها، وفي نفس الوقت يمثلون المرجعية والقيادة فيها؛ فإن توسع العلوم وتعدد الحاجات وتعقيدات الحياة، كل ذلك لا يسمح للإنسان أن يبلغ الذروة في تخصصات متعددة.

لذا يقتضي عصرنا هذا التخصص والمزيد من الاهتمام في جوانب محدودة من العلوم والمهارات، مما ازدادت أهمية الإدارة وجمع شتات التخصصات في حقل واحد لأداء مهام محدودة.

وإن طلبة العلوم بدورهم يتخصصون عملياً في جوانب محدودة، ولكن قد لا يتوافق مع منهجهم الدراسي مع ما يتخصصون فيه؛ وهذا يقتضي دراسة حقول خدمة الطلبة في المستقبل، ومن ثم دراسة توجيهات كل طالب وميوله لخدمة المجتمع، عندها يتسنى لنا أن نخصص مناهجهم لما يصبون إليه من ميادين الخدمة لإدارة شؤون المجتمع المسلم؛ ولا ضير في أن ندع المجال مفتوحاً لمن يستوعب المزيد من المعارف ليصبح في صفوة القادة، كالصفوة وحواريي العلماء والوكلاء العاملين وغيرهم.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا