رأي

على رصيف السياسة .. فاغنر المتمردة و بوتين المظلوم!

امرأة عراقية كبيرة في السن تعيش وسط الطرق غير المعبدة والخدمات المعدومة، لكنها تفكّر بمصير بوتين بعد التمرد العسكري الحاصل من قبل قواع “فاغنر”، وتسأل: ماذا حلّ بالرئيس بوتين؟!

هذا نتاج طبيعي لإعلام موجّه ومسيّس لشعوبنا للتضامن مع هذا ضد ذاك، فالقنوات الفضائية الموالية للغرب تشدّ على يد عناصر فاغنر لمواصلة القتال ضد الجيش الروسي في محاولة لإظهار الشخصية الضعيفة لبوتين، والمؤسسة العسكرية المخترقة للدولة الروسية برمتها، بينما القنوات الفضائية الموالية للمحور الروسي تَعِد هؤلاء متمردون على الجيش الروسي، وعلى بوتين سحق هذا التمرد والانتصار عليهم.

هذا من الجهد الاعلامي العربي المعروف بمنهجه وفلسفته الاعلامية البعيدة عن التنمية الفكرية ونشر الوعي وبناء الثقافة، –على الأغلب حتى لا نُعمم- أما الشريحة المثقفة لدينا التي يفترض انها تتحمل هذه المسؤولية الحضارية وتفهم معنى الإعلام و دوره المباشر في صناعة الرأي العام ونشر الحقيقة، والفكرة الأصيلة، فهي الاخرى تتابع بحرص بالغ مصير ما سيؤول اليه بوتين، بل وحتى الحرب في أوكرانيا، كما لو أنها الفيصل بين الحق والباطل، وكذا الحال بالنسبة لملفات سياسية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، إلا اذا تعلق الأمر بأميركا فنضع عليه اشارة حمراء.

⭐ ليست المرة الأولى التي ينقاد فيها المخاطب العراقي بشكل خاص والمسلم بشكل عام لقضايا سياسية بعيدة عن اهتمامه اليومي، وعن مشاكله وأزماته

ليست المرة الأولى التي ينقاد فيها المخاطب العراقي بشكل خاص والمسلم بشكل عام لقضايا سياسية بعيدة عن اهتمامه اليومي، وعن مشاكله وأزماته، نعم؛ ثمة فقرة ذات بعد ثقافي مسنودة بنصّ مقدس يذكرنا دائماً بأن “من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم”، وهذا يعني فيما يعنيه؛ الاهتمام المتبادل بين المسلمين في همومهم ومعاناتهم، وليس الأمر من طرف واحد، فـ “من لم يهتم” موجه الى كل مسلم في العالم، سواء من يعيش الازمات والمحن، او من يعيش الرخاء والرفاهية.

لنضع النقاط على الحروف، ونرى معيار الاهتمام عبر وسائل الإعلام، وايضاً؛ مواقع التواصل الاجتماعي، هل هي السياسة والصراع الدائر بين هذا النظام السياسي او ذاك؟ أم هي المصالح الاقتصادية؟

فماذا يفيدنا من تفوق الصين اقتصادياً على اميركا؟ بل ماذا نستفيد من الجدل الدائر حول جدوائية طريق الحرير، او طريق القناة الجافّة، او أي تسمية اخرى، في وقت نشهد خمول وكسل شريحة واسعة من الشباب العراقي، وعدم تفاعله مع مشاريع العمل، وايمانه الراسخ بالوظيفة الحكومية والراتب الشهري؟ انه واقع وحقيقة نعيشها تحتاج الى معالجات وبحوث وتقصّي لكشف الاسباب للوصول الى الحلول لصنع ثقافة العمل والانتاج والاعتداد بالمنتج الوطني.

ولمن يتحدث قضايا الشعوب الاسلامية، والامتثال لحديث النبي الأكرم؛ “من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم”، علينا الانتباه أولاً؛ الى الفارق بين قضايا الشعوب العادلة، وقضايا الانظمة السياسية والصراع على النفوذ والهيمنة بينها وبين القوى الكبرى، مثال ذلك؛ الدفاع عن قضية شعب البحرين العادلة، ونصرته لما يعيشه من تمييز طائفي وقمع سياسي، تختلف كثيراً عن الدفاع عن نظام الحكم في صنعاء باليمن، فالبعض يدافع عنه نكاية بالنظام السعودي لاسباب تاريخية معروفة، الى جانب الحالة الانسانية المتمخضة من الحرب وقصف المدنيين ويقتل الاطفال، ونفس هذا النظام الذي يديره جماعة أنصار الله بقيادة عبد الملك الحوثي، يفرض اجراءات طائفية بحق اخواننا من الشيعة الاثني عشرية بشكل غير مبرر وظالم، ومنعهم من ممارسة شعائرهم وعقيدتهم، ليس أقلها محاربة الشعائر الحسينية.

طالما اشرنا في مقالات سابقة الى حالة التسييس المسكونة بها شعوبنا، وتحديداً الشعب العراقي، والظاهرة تعود الى بدايات القرن الماضي، عندما عُجنت حياة العراقيين بتطورات الحرب بين الغرب والعثمانيين، ثم مرحلة الاستعمار والانتداب والحكومات العميلة، والانقلابات العسكرية والحروب العبثية وصراع الايديولوجيات، ولم يسترح هذا الشعب يوماً لينتبه الى حياته اليومية، وينظر في عاداته وتقاليده وآدابه وانتمائه الديني والثقافي، والفضل كل الفضل يعود للمرجعية الدينية والحوزة العلمية والخطباء في سالف الزمان، الذين كانوا بحق واحة النفس الطويل لإجراء ما يمكن استعارته مجازاً بالصيانة أوالإدامة أو الفرمتة لبعض الظواهر والتقاليد والسلوكيات.

⭐ آن الأوان لأن ننتقل من رصيف السياسة الى رصيف الثقافة، بعد طول جلوس تخللته اجيال عديدة ورثت الملل من هذا التوجه العقيم الذي يكرس مشاعر الضِعة والتبعية للآخرين، وبشكل خاص وخطير؛ التبعية الثقافية

مضى على تلك الحقبة زمنٌ طويل، وحصلت تطورات في الحياة والانسان ووسائل الاتصال، وآن الأوان لأن ننتقل من رصيف السياسة الى رصيف الثقافة، بعد طول جلوس تخللته اجيال عديدة ورثت الملل من هذا التوجه العقيم الذي يكرس مشاعر الضِعة والتبعية للآخرين، وبشكل خاص وخطير؛ التبعية الثقافية، حتى صار المفيد عند الجيل الجديد ما يتابعونه على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن استنفذت كتب التنمية البشرية اغراضها طيلة سنوات ولله الحمد!

وقبل أيام نقرأ لافتة “منسق النوع الاجتماعي” الى جانب لافتة تنظيم الأسرة في المراكز الصحية الحكومية بمدينة كربلاء المقدسة (المستوصفات الشعبية)، في وقت نصرف ساعات عاكفين على هواتفنا النقالة –الذكية- لنشر مقاطع فيديو خاصة بقضية التحول الجنسي، ونحرص على نشر من يستنكر ويصرخ ويغضب على هذه الفتنة الجديدة! وهو أمر جيد يُشكر عليه للتنبيه والتحذير، إنما الواجب الانتباه والالتفات أكثر الى القاعدة الجماهيرية وما هو مستوى الايمان بالقيم الدينية والاخلاقية لديها، حتى نعرف أننا قادرون فعلاً على مواجهة هذه الهجمة الجديدة أم لا؟

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا