المجتمع الذي عاصره الإمام الجواد، عليه السلام، مجتمع له من الأحكام البعيدة عن الثقافة الحقة التي أسسها الرسول الكريم، صلى الله عليه وآله وهو القائل: “الأفضل هو الأكبر وليس الأكبر هو الأفضل”، وهي الثقافة التي تضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وهذا من أبرز واشد ما واجهه الإمام الجواد، عليه السلام، حتى من المقربيين بدعوى صغر سنه، لأنه استلم الامامه وعمره تسع سنوات، إلانه اثبت ذلك بالحجة والمنطق وما يحمله من علوم لمواجهة ما يضع الحق في مكانه لاسيما وأن المجتمعات الإسلامية مجتمعات تعيش التحدي في إثبات عقيدتهم وما يثبت رقي مبادئهم.
⭐ يجب ان نفهم ان المجتمع ما كان عليه ان يواجه الحق بالإنكار لأنه يتعارض مع مقاييسه، فهو بذلك يخسر فرصة النجاة في بحر التناقض المجتمعي
ومن ذلك يجب ان نفهم ان المجتمع ما كان عليه ان يواجه الحق بالإنكار لأنه يتعارض مع مقاييسه، فهو بذلك يخسر فرصة النجاة في بحر التناقض المجتمعي، وهذا ما نعيشه اليوم من تخبط وتصادم وتفكك وتنازع وتكفير لأننا نريد القيادة وفق مقايسننا وأذواقنا وهذا ما لا يكون له نتاج إلا الصراع وان أردنا ذلك، فعلينا أن نشخّص العدو لنا جميعا كأمة أسلامية وان نقدم المصلحة العامة على الخاصة وان نتخلص من عبودية العنوان.
ولعل هذا الطرح ليس سهلا وليس بالأمر اليسير ان تذوب مثل هذه الاختلافات ولعل ذلك يحتاج الى جهود كبيرة للوصول بالمجتمع الى هذا الحد، لكن الاهتمام وعدم الابتعاد بمعرفتنا عن الثوابت الإسلامية وأصولها لا يتعارض مع اختيار الفرد المسلم وارادته، ليحصن نفسه وأسرته من توابع التفكك المجتمعي الذي نخر ومازال ينخر بجسد أمتنا الإسلامية، فنجد التاريخ قد قدّم لنا الكثير من الشواهد التي يجب ان تطرح كدروس قيمه في سبيل غرس الثقافة الإسلامية، لاسيما ما قام به الحكام من دعوات مختلفة للأئمة، عليهم السلام، بمختلف المراحل التاريخية ليأخذوا دورهم الحقيقي في مجال الدفاع عن الإسلام وتقديم الحلول المختلفة للمواجهة التحديات الفكرية التي تواجه ديننا الإسلامي.
ومما سطره التاريخ هو ما قام به الإمام الجواد، عليه السلام، في المجلس الذي أعدّه الحاكم ان ذاك لمواجهة يحيى أبن اكثم الذي تم اختياره من قبل السلطة لشهرته العلمية من تقديم الإجابات الفكرية المختلفة التي فصلها الإمام بالشكل الذي قد أذهل الحاضرين، مع التحذير والخوف المسبق من دعوته لمثل هكذا ندوة علمية يراد بها الإثبات والتحدي.
⭐ الإمام الجواد، عليه السلام، ومسيرته التاريخية في تثقيف الجماهير، ومواجهة الانحراف الفكري، ومواجهة الظلم لا ينبغي ان تدرك بالصورة التقليدية لأي مواجهة بين خطين متناقضين
وهذا إن كشف لنا عن شيء فقد كشف لنا ان التوجه المجتمعي او مجتمع السلطة قد ركن الى العلم والمعرفة لكن ليس بالعلم المكتمل والمعرفة التامة، وهذا ما لا يحتاج معه الى إثبات في إدارة المجتمع الناقصة، التي تحتاج الى تصاريح واضحة قدمها الإمام، عليه السلام، منها: “لو سكت الجاهل ما أختلف الناس”، وكذلك قوله: “من أخطأ وجوه المطالب خذلته وجوه الحيل”، فضلا عن الإدارة الظالمة التي تدار بها شؤون الأمة وما تفصحه نفوس من كان حول السلطان ان ذاك لأنهم يعلمون بقوة شخصية الإمام الجواد القيادية والسياسية، إلا ان كل ذلك لم يمنعه من ان يمارس دوره القيادي في المجتمع وممارسة نشاطاته المختلفة.
ومما يجب ذكره في هذا المقام هو ان المواجهة التي قام بها الإمام الجواد، عليه السلام، ليست مواجهه فكرية فقط يتوقف تحقيقها على إثبات الاعلمية، بل هو مواجهة يتبعها صغر سن الإمام، عليه السلام، الذي كان يمثل بُعداً من أبعاد مواجهة التعصب الفكري فهو عند ذلك كان يقدم دوراً مركبا ليحسم تلك المواجهات التي هدفها رضا الله ـ سبحانه ـ والرحمة والرأفة بالمجتمعات التي يستشعر الإمام مسؤوليته اتجاهها.
الإمام الجواد، عليه السلام، ومسيرته التاريخية في تثقيف الجماهير، ومواجهة الانحراف الفكري، ومواجهة الظلم لا ينبغي ان تدرك بالصورة التقليدية لأي مواجهة بين خطين متناقضين، بل يجب ان تدرك من باب التحمل والشعور بالمسؤولية اتجاه أعظم رسالة لإكمال المسيرة المحمدية الخالدة في مجتمع انفتحت عليه كل أبواب الفكر المختلفة، حاملا مشعل النور بين ثنايا أودية الظلم، والظلام شاق الطريق باتجاه البر، والسلام، والعدل، محذرا وبصريح القول: “العالم بالظلم والمعين عليه، والراضي به، شركاء”.
المصادر:
- موسسة البلاغ، الإمام موسى الكاظم(ع)، الأمام علي ابن موسى الرضا (ع)، الأمام الجواد (ع)، مطبعة الستارة، الطبعة الخامسة، 2010.