مناسبات

21رجب الأصبّ ذكرى ولادة عزيزة الإمام الحسين؛ سَكِينة

وقفةٌ للحقيقة أمام التاريخ المزيف

عندما نأتي على ذكر أحد أولياء الله الصالحين، و نروم الحديث عنه بحثاً عن الدروس والعبر، تستوقنا مشكلة التاريخ، فقد شحّت علينا تفاصيل أحوال وتفاصيل حياة أولئك الصالحين، بينما يعجّ هذا التاريخ بتفاصيل موائد الملوك، وعدد جواري الامراء، وحجم الثروة عند هذا وعند ذاك، وما قال وقيل من قبيح القول، و سخافة الرأي والطرح.

وهذا ما يواجه الكاتب عن السيدة سَكِينة، ابنة الامام الحسين، عليه السلام، التي عاشت سبعين عاماً تخللتها أحداث جسام في المجتمع والامة، أبرزها، و أعظمها وقعاً؛ فاجعة كربلاء، وكان لها من العمر حينها اربعة عشر عاماً، وهذه بالحقيقة تُعد علامة فارقة في سيرة الاعلام، وهي ليست شخصية عادية، لكن هذا وذاك وغيره من علامات الاستفهام، تجعلنا نصل الى صورة متكاملة – تقريباً – لهذه السيدة الجليلة والمظلومة كظلامة آبائها، ونحن نستذكرها في ذكرى مولدها الشريف في مثل هذه الأيام سنة 48 للهجرة.

  • سَكِينة .. السكون المتفكّر

ولدت للامام الحسين، عليه السلام، بنت من زوجته الرباب بنت امرؤ القيس، و سمّاها؛  آمنة، تيمّناً باسم والدة جده، رسول الله، صلى الله عليه وآله، ثم لقبتها أمها “سَكِينة، بفتح السين وكسر القاف، ليكون اسماً خاصاً بالاسرة العلوية، ويظهر أن هذا اللقب جاء نظراً لصفة السكون والهدوء التام التي كانت تتحلى به سيدتنا الجليلة، ثم ما لبث ان تحول هذا اللقب الى اسم لها، وحتى ان الامام الحسين، عليه السلام، درج على لسانه الكريم اسم سكينة، ولشدما كان يحبها ويحنّ عليها، و يحرص على مشاعرها الرقيقة، وهو القائل فيها ابياته المشهورة:

لَعَمرُكَ إنَّني لَاُحِبُّ داراً تَحُلُّ بِها سُكَينَةُ وَالرَّبابُ

اُحِبُّهُما و أبذُلُ بَعدُ مالي ولَيس لِلائِمي فيها عِتابُ

شهدت مع أهل بيتها واقعة الطف، وتلك المواجهة الفاصلة بين الحق والباطل، وكانت حينئذ إمرأة متكاملة ناضجة، فقد قضت الأربعة عشر عاماً تحت رعاية و إشراف سيد الشهداء، عليه السلام، ولا يخفى ما لهذه التربية المباشرة من قبل المعصوم من أثر بالغ في بناء شخصيتها من النواحي كافة؛ العلمية والدينية والاخلاقية، فضلاً عن تأثير البيئة الأُسرية المتضمنة لاكثر من معصوم، فقد أدركت الإمام زين العابدين، والإمام الباقر، عليهما السلام، مما جعلها تتألق في مراقي العلم والمعرفة والتهذيب.

وفي ساحة المعركة وفي اللحظات الاخيرة المفجعة حيث كان الامام الحسين، عليه السلام، يروم توديع العيال، كانت سيدتنا سكينة تحمل سَكِينتها العجيبة وهدوئها و ركونها المثير للشجون، فيُروى ان الامام، عليه السلام، رأى ابنته العزيزة واقفة في مكانها طرف الخيمة لا تتكلم سوى بالدموع ، فعزّ عليه أن يرى ابنته على هذا الحال، فتوجه اليها يكلمها مصبّرا لها:

سيطول بعدي يا سكينة فأعلمي

منك البكاء اذا الحِمامُ دهاني

لا تُحرقي قلبي بدمعك حسرةً

مادام منّي الروح في جثماني

فإذا قُتلت فأنت أولى بالذي

تأتينه يا خِيرَة النسوان

وبعد واقعة الطف وما جرى فيها من أحداث ومصائب، أبرزها السبي، اشتركت السيدة سكينة في إماطة اللثام عن الزيف الاموي، و إيصال رسالة أبيها الى الناس، مجاهدة الى جانب نساء بيت الوحي، وفي المقدمة؛ عمتها العقيلة زينب، عليه السلام.

⭐ جاء في بعض الكتب ان السيدة الجليلة كانت ترعى أندية الشعر واللهو، وكان الشاعر الاموي عمرو بن أبي ربيعة يتغزّل بها في تلك المجالس، كذباً و زوراً

وبعد العودة الى المدينة بعد واقعة الطف، انتقلت سكينة إلى رعاية الإمام السجاد، عليه السلام، حيث عاشت حياة حافلة بالعلم والأدب والنشاط الاجتماعي، وكان خصومها يقرّون لها بنسبها ومناقبها فكانت سيدة نساء عصرها، و أكثرهنّ ذكاءً وعقلاً وأدباً وعفة، وكانت تزيّن مجالس نساء أهل المدينة بعلمها وأدبها وتقواها، وكان منزلها ندوةً دائمة للعلم والفقه والحديث يؤخذ أديم العلم من منبتها وإليها القول الحق بما أدبت وعلمت.

  • فضيحة المزورين

كما ان مهمة التاريخ الملكي والسلطوي تهميش الصلحاء والثوار، وكل من يشكل خطراً على كرسي الحكم، فان الاقلام المأجورة ومشاعر العداء والبغض لأهل البيت، عليهم السلام، والكره لكل قيم الفضيلة والحق والعدل، تدفع بالبعض لأن يتقوّل ويفتري للنيل من تلكم الشموس المضيئة، لاسميا اذا كان المقصود، إمرأة في مرحلة الشباب، وقد توهم كتاب البلاط والسلاطين ان مرحلة ما بعد واقعة الطف، هو الغلبة والهيمنة لصالح الحكام والطغاة، مما دفعهم للتجرؤ على السيدة الجليلة سكينة بنت الحسين، سيد شباب اهل الجنة، والصاق تهم و افتراءات و اقوال لا تستقيم مع العقل، وبعيدة كل البعد عن شخصيتها وتربيتها النبوية والعلوية.

فقد جاء في بعض الكتب ان السيدة الجليلة كانت ترعى أندية الشعر واللهو، وكان الشاعر الاموي عمرو بن أبي ربيعة يتغزّل بها في تلك المجالس، كذباً و زوراً.

وقبل الرد على هذه الفرية، لابد من الاشارة الى ان الحقبة التي عاشتها سيدتنا الجليلة كان يحكمها الزبيريون المعرفون للقاصي والداني بحقدهم وضغينتهم على اهل بيت رسول الله، ولعل هذه فرصتهم بوجود شخصية هادئة بعيدة عن الاضواء ليشيدوا حولها جداراً كاذباً ضناً منهم انه يفصلها عن الحقيقة، فقد سُئل المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء -طاب ثراه- عن فِرية اجتماع الشعراء لديها فقال: “لم يذكره ابن قتيبة ولا ابن طيفور في بلاغات النساء مع أنهما أقدم من أبي الفرج”. واضاف: “كتاب أبو الفرج الاصفهاني، كتاب لهوٍ، وقد أخذ عن الكذاب، حماد الذي جاءت عنه الرواية كذباً”.

وممن نقل هذه الأكاذيب؛ الزبير بن بكار، المعروف بعدائه لأهل البيت، عليهم السلام، وقد كان يضع المفتريات في رجالهم ونسائهم حتى أرادوا قتله، ففرّ من مكة إلى بغداد أيام المتوكل، ذكر ذلك ابن خَلكان في “وفيات الأعيان”، فكيف يوثق بنقل من هذا شأنه وموقفه من أهل البيت، عليهم السلام، ودأبه الرواية عن الوضاعين والكاذبين .

أما الدليل الاكبر على هذه الفضيحة التاريخية فهي وجود سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير، ويتذكر القارئ من يكون مصعب؟! ذلك الذي اقتحم الكوفة وقتل الالاف من المسلمين في يوم واحد للانتقام من منافسه القديم، المختار بن عبيدة الثقفي، وكان ما كان من قتله مع افراد عائلته ومنهم زوجته.

و سكينة هذه كانت معروفة في التاريخ بانها كانت ممن يتغزل بها عمرو بن أبي ربيعة، كما ينقل ذلك أبو الفرج الاصفهاني نفسه في كتابه “الأغاني”، ولكن البغض والشنآن لأهل البيت وتخفيفاً من العار والشنار عن أعدائهم قلبوا الاسم عن عمد وإصرار من سكينة الزبيرية إلى سكينة بنت الحسين شهيد كربلاء.

⭐ سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير هي التي كانت معروفة في التاريخ ممن كان يتغزّل بها الشعراء، ومنهم؛ عمرو بن أبي ربيعة، كما ينقل ذلك أبو الفرج الاصفهاني في كتابه “الأغاني”

والفرية الاخرى على سيدتنا الجليلة زواجها المتعدد، فذُكر لها من الأزواج عبد الله بن عثمان، وعمرو بن حكيم، ومصعب بن الزبير! و ربما غيرهم، حتى روى الزبير بن بكار أنها تزوجت بستة أزواج! وكل هذه الزيجات مكذوبة ومختلقة وناقشت رواياتها الدكتورة بنت الشاطئ في كتابها؛ “سكينة” من موسوعة آل النبي وقالت: “فليس بالغريب أن ترفض الشيعة هذه الروايات جميعاً وقد تعارضت فتساقطت، وكذب بعضها بعضاً، وجاوزت نطاق المعقول”، وقال السيد المقرم في كتابه عن سكينة: “وحينئذ فلا تغفل أيها الفطن عما اثبته الأندلسي (أبو الفرج) والزجّاج والحصرى وسبط بن الجوزي والبيهقي، فإن المصدر حسبما تبعناه وفحصناه هو آل الزبير، ومن مال ميلهم مثل الهيثم بن عدي وصالح بن حسان وأضرابهم ممن طعن فيهم أرباب التراجم”.

أما المصادر الموثوقة لنا تؤكد انها، سلام الله عليها، لم تتزوج إلا ابن عمّها عبد الله بن الامام الحسن عليه السلام.

  • محاربة حتى الموت

في يوم وفاتها اشترى محمد بن عبد الله ذو النفس الزكيّة عطراً وعوداً بأربع مائة دينار و أحرقها حول نعشها الطاهر وقد رام خالد بن عبد الملك حاكم المدينة إهانة الجنازة بسبب حرارة الجو بتأخير تشيعها وقال: إصبروا حتى آتي للصلاة على الجنازة  لكنه لم يأت، لذا بقيت الجنازة بلا دفن حتى الليل. لكنها دفنت في المدينة المنورة قرب جدها رسول الله، صلى الله عليه وآله، فسلام عليها من مظلومة شهيدة.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا