أسوة حسنة

الإمام محمد الجواد واختبار صبر الشيعة

  • مقدمة

أئمة أهل البيت، عليهم السلام، هم نور الله في الأرض، كما تُفيدنا آية النور في سورة النور المباركة، فهم الأنوار القدسية الذين ضربهم الله مثلاً لنوره في هذه الدنيا، وفي نص الكثير من الروايات الواردة بأن (نور على نور) تعني إمام من بعد إمام، ولذا قال ابن العرندس الحلِّي في رائيَّته الرائعة:

هـُمُ النُّـورُ نُورُ اللهِ جَـلَّ جَـلَالـُهُ *** هُمُ التِّينُ وَالزَّيتُونُ وَالشَّفــعُ وَالوِترُ

مَـهَـابِطُ وَحي اللهِ خـُزّانُ عِلمِهِ *** مَيَامِينَ فِي أَبْيَاتِهِـــــم نَزَلَ الذِّكرُ

والإمام التاسع محمد بن علي الرضا الملقَّب بالجواد، عليهما السلام، هو النور الذي انتظرته الأمة والإمام الرضا ، عليه السلام، طويلاً حتى بزغ نوره، ولمع ضوؤه في سماء الأمة الإسلامية.

  • لماذا تأخَّر النور؟

من المحن الكبيرة، والأسرار الغزيرة التي وضعها الله بالإمام التاسع، عليه السلام، أنه تأخَّرت ولادته طويلاً حتى شكَّ الناس بأنه لن يأتي فكان البعض يُصرِّح بهواجسه لأبيه الإمام الرضا، عليه السلام،  فعن عقبة بن جعفر قال: قلتُ لأبي الحسن الرِّضا، علیه السلام: قد بلغتَ ما بلغتَ ولیس لكَ ولد، فقال: “یا عقبة إن صاحب هذا الأمر لا یموت حتى یرى خلفه من بعده”، لأن الإمام الرضا، عليه السلام، زاد عمره الشريف عن الخامسة والخمسين، فكانوا يأتون إليه ويسألوه بكل طريقة ليعرفوا مَنْ هو الإمام من بعده.

من المحن الكبيرة، والأسرار الغزيرة التي وضعها الله بالإمام التاسع، عليه السلام، أنه تأخَّرت ولادته طويلاً حتى شكَّ الناس بأنه لن يأتي

فعن ابن بزیع، عن أبی الحسن الرضا، علیه السلام، أنه سُئل، أو قیل له: “أتکون الإمامة فی عمٍّ أو خالٍ؟ فقال: لا، فقال: فی أخ ؟ قال: لا، قال: ففي مَنْ؟ قال: في وَلَدِي”، وهو یومئذ لا ولدَ له.

وعن البزنطي قال: قال لی ابن النجاشی: من الإمام بعد صاحبك؟ فأحب أن تسأله حتى أعلم، فدخلت على الرضا، علیه السلام فأخبرته، قال: فقال لی: “الإمامابنی”، ثم قال: هل یجترئ أحد أن یقول ابنی ولیس له ولد؟ ولم یکن ولد أبو جعفر، علیه السلام، فلم تمضِ الأيام حتى ولد، علیه السلام.

فهي محنة حقيقية للشيعة الكرام، ولذا كان يُطمئنهم الإمام الرضا، عليه السلام، إلى أن أذن الله بولادته وبزوغ نوره في العاشر من رجب 195هـ في المدينة المنوَّرة، فقرَّت عين والده الرِّضا، عليه السلام، والشيعة والموالين بتلك الولادة المباركة الميمونة، ولكن العجيب من بعض الواقفية الذين كانوا يأتون إلى الإمام الرضا، عليه السلام، ويؤذونه بكل صلافة ووقاحة لأنه لا ولد له.

 فعن ابن أبى نجران وصفوان قالا: حدثنا الحسین بن قیاما، وکان من رؤساء الواقفة، فسألنا أن نستأذن له على الرِّضا، علیه السلام، ففعلنا فلما صار بین یدیه قال له: “أنت إمام؟ قال: نعم، قال: إنی اشهد الله أنك لستَ بإمام، قال: فنكتَ طویلاً فی الأرض منكَّس الرَّأس ثم رفع رأسه إلیه، فقال له: ما علمك أنِّي لستُ بإمام؟

قال: لأنا روینا عن أبی عبد الله، علیه السلام: أن الإمام لا یکون عقیماً، وأنتَ قد بلغتَ هذا السِّن ولیس لك ولد، قال: فنَكَّس رأسه أطول من المرَّة الأولى، ثم رفع رأسه، فقال: أُشهد الله أنَّه لا تمضي الأيام واللیالی حتى یرزقنی الله ولداً منِّي“. قال عبد الرحمن بن أبی نجران: فعددنا الشُّهور من الوقت الذی قال فوهب الله له أبا جعفر، علیه السلام، في أقلِّ من سنة.

فكانت محنة الإمام الرِّضا، عليه السلام، في ذلك كمحنة جده رسول الله، صلى الله عليه وآله، مع شانئيه ومبغضيه الذي قالوا عنه: أبتر، فانزل الله عليه سورة الكوثر بشأن فاطمة الزهراء ، عليه السلام، فهي الكوثر.

  • ولادة الجواد  عليه السلام والبركة الدائمة

البركة هي من الثَّبات، والتنامي في الشيء، والإمام، عليه السلام، وجوده بركة للأنام جميعاً فلولاه لما بقي أحد، ولساخت الأرض بأهلها كما في قول الإمام الرضا، عليه السلام.

ولكن لولادة، ووجود الإمام التاسع من أئمة المسلمين الإمام الجواد، عليه السلام، كانت بركته عامَّة وشاملة، وزائدة عن غيره على شيعته لأنه امتحنوا به قبل ولادته الميمونة، وبعد ولادته أيضاً لأنه استلم منصب الإمامة بسن صغيرة جداً، لا يتجاوز الست سنوات، وكان قد فارقه أبو الرضا، عليه السلام، وهو في الرابعة، فكيف استطاع أن يقوم بهذا الحمل الثقيل، ويسدُّ مكان والده الثامن الذي كان ولي عهد المأمون العباسي ومالئ الدنيا بالعلم، وشاغل الناس بما يُلقيه علهم من مواعظ وحكم؟

فبركة الإمام الجواد، عليه السلام، كوجوده معجزة من معاجز الإمامة، وآية من آيات الله في هذه الأمة، ولذا يخصُّه والده بمزيد من التَّكريم، والتَّعظيم وهو في المهد صغيراً، فعن یحیى الصنعاني قال: دخلتُ على أبی الحسن الرضا، علیه السلام، وهو بمكة وهو یُقشِّرُ موزاً ویُطعمُ أبا جعفر، علیه السلام، فقلتُ له: جعلتُ فداك هو المولود المبارك؟ قال: نعم، یا یحیى هذا المولود الذی لم یولد فی الإسلام مثله مولود أعظم برکة على شیعتنا منه.

بركة الإمام الجواد، عليه السلام، كوجوده معجزة من معاجز الإمامة، وآية من آيات الله في هذه الأمة، ولذا يخصُّه والده بمزيد من التَّكريم، والتَّعظيم وهو في المهد صغيراً

فالإمام الجواد، عليه السلام، كان امتحاناً للشيعة الكرام فمَنْ قال بإمامته فاز ومضى مع الأئمة من ولده، ومَنْ حار وشك توقف في أمره، وربما انتكس على عقبه لا يدري أي الخلاص في دينه، لأنهم لم يكونوا على علم وإيمان ويقين بالإمامة بالمعنى الدقيق لذلك، وكانوا يظنون ظناً والظن لا يُغني من الحق شيأ، فخسروا أنفسهم وأديانهم وذلك هو الخسران المبين.

لأن منصب الإمامة، وشأن الولاية هي من أمر الله، واختياره كما فصَّل ذلك الإمام الرضا، عليه السلام، في حديثه لعبد العزيز، بما لا مزيد عليه من البيان، في الإمامة والإمام، عليه السلام، وفعلاً كانت ولادة الإمام الجواد، عليه السلام، وحضوره ونوره الزاهر، وبركته الحاضرة على الأمة والإنسانية عامَّة، وعلى شيعته ومحبه ومواليه خاصَّة سلام الله عليه ورزقنا الله بركته وجوده إنه سميع مجيب.

عن المؤلف

أ.د سادسة حلاوي حمود ــ جامعة واسط ــ قسم تاريخ الأندلس والمغرب

اترك تعليقا